الأربعاء، 14 يناير 2009,6:39 م
مدنيّو غزّة ودموع التماسيح
خالد صاغية
الأخبار عدد الاربعاء ١٤ كانون الثاني ٢٠٠٩
ليست محاولات صدّ الأشياء وحدها ما يتطلّب تضحيات. القيام بأفعال، لا بردود فعل وحسب، يتطلّب أحياناً تضحيات أكثر قسوة. احتلال أرضٍ يكبّد خسائر في الأرواح، ومقاومة احتلالٍ تكبّد خسائر أيضاً. وكلّما تطوّرت أنواع الأسلحة، تراجع القتال الكلاسيكي، وارتفع عدد الضحايا من المدنيّين. لكنّ هؤلاء غالباً ما لا يحتلّون واجهة الأحداث.
ففي الرواية الرسميّة التي سادت القرن التاسع عشر، والتي ما زالت تتحكّم بنا، يسير التاريخ وفقاً لخطّ متصاعد. كلّ مرحلة متقدّمة على ما قبلها. وكلّ تقدُّم لا يمكنه أن يتمّ ما لم يخلّف كثيراً من الضحايا. النظام الرأسمالي الذي «ننعم» بإنجازاته ما كان له أن يبصر النور لولا النهب والقتل. وما كان يمكنه أن يستمرّ لولا الاستغلال الذي يراوح بين موت العمّال الفعليّ وتحصيلهم رواتب أقلّ من قيمة عملهم. لكنّ كلّ هذا الموت وكلّ هذه التضحيات التي تقدّمها البشريّة يوميّاً ليست محلّ نقد من الرواية المهيمِنة. فهي مجرّد أضرار جانبيّة لمعركة التقدّم التي يبدو أنّه لا نهاية لها، ولا إحصاء نهائيّاً لعدد ضحاياها.
ليس قتل النفس البشرية ما يثير «إنسانيّة» الخطاب الليبرالي المهيمِن. فهذا القتل لا بأس به ما دامت غايتُه «خلاصيّة». هكذا حين تحصد الطائرات الأميركيّة آلاف الضحايا في أفغانستان أو العراق، يركّز الخطاب المهيمِن على عمليّة «تحرير المرأة» الأفغانيّة أو تصدير «الديموقراطيّة» إلى العراق. لا مكان للمدنيّين إلا لدى الأصوات المهمَّشة التي وقفت ضدّ الحرب. ألم يرَ أحدهم في قصف الطائرات لأرض العراق وحصدها آلاف القتلى، زقزقةَ عصافير؟
أمّا حين تحصد القذائف الإسرائيليّة مئات الضحايا في غزّة، فيقفز المدنيّون إلى الصورة، لكن بوصفهم ضحايا حركات المقاومة، لا ضحايا آلة القتل الإسرائيليّة. ولا يصبح قتلهم مُداناً بصفته قتل نفس بشريّة، بل بصفته قتلاً «مجانيّاً». ذلك أنّ صمود أهل غزّة هو فعل غير «خلاصيّ» وفقاً للرواية الليبرالية، لأنّه يعني إخضاع سكّان غزّة لسلطة تنظيم إسلاميّ، ويُبعد المنطقة عن مشاريع التسوية السلميّة التي تفتح آفاق الازدهار والتقدّم.
لذلك، يبدو مدنيّو غزّة، بعكس مدنيّي العراق، جديرين بالدموع... دموع التماسيح الليبراليّة.
 
posted by Thinking | Permalink |


0 Comments: