الأربعاء، 6 مايو 2009,12:58 م
الضابط والسياسي

خالد صاغية

الأخبار عدد الاربعاء ٦ أيار ٢٠٠٩


للقضاء أسبابه في احتجاز الضبّاط الأربعة، وله أيضاً أسبابه في إطلاقهم. لكنّ الرمزيّة السياسيّة للحدثين أكبر من أن يجري تجاوزها. فبالنسبة إلى الطاقم السياسي الذي قاد «ثورة الأرز» أو التحق بها، كان لا بدّ من سجن هؤلاء الضبّاط حتّى لو لم يكونوا متورّطين باغتيال الرئيس رفيق الحريري. ذلك أنّ مشروع الهيمنة السياسية على البلاد، من إقصاء قوى عن السلطة إلى تغيير في المصطلحات والمفردات السياسية، وصولاً إلى إعادة رواية التاريخ بما يتلاءم مع مقتضيات «الثورة»، لا يتلاءم مع صورة قادة الثورة كمتعاونين سابقين مع «الوصاية السوريّة». فانتفاضة الاستقلال لا يمكن أن يقوم بها المتعاونون، بل المتضرّرون والاستقلاليّون أباً عن جَدّ. وإذا كان القادة السياسيّون للبلاد بريئين من «شبهة» التعاون، فلا بدّ من البحث عن متعاونين آخرين، كالقادة الأمنيّين مثلاً.
كان إبعاد الضبّاط ضرورياً إذاً لانطلاق مشروع الهيمنة الـ14 آذاريّة. وجاء إطلاقهم في اللحظة التي بدا فيها واضحاً فشل قوى 14 آذار في مشروعها، نتيجة التغيّرات الداخليّة والخارجيّة. وتماماً كما كانت لحظة اعتقال الضباط الأربعة هي لحظة إعلان بداية مشروع الهيمنة، فإنّ لحظة إطلاق الضبّاط الأربعة هي لحظة الإعلان عن نهاية ذاك المشروع.
غير أنّ «سهولة» احتجاز الضبّاط مرتبطة أيضاً بـ«صعوبة» محاسبة السياسيّين في لبنان. لا علاقة لذلك بارتكابات الضبّاط خلال الحقبة السوريّة، ولا بتوزيع المسؤوليّات بينهم وبين السياسيّين. حتّى إنّ أحد الضبّاط المفرج عنهم رفع شعار «المحاسبة»، وعنى به محاسبة ضبّاط وإعلاميين وقضاة، مرفقاً شعاره هذا بغزل للسياسيين القريبين منهم. فاعتبر أنّ سعد الحريري مضلَّل وأنّ وليد جنبلاط يشفع به أنّه مهضوم!
فمحاسبة السياسيين متعسّرة في لبنان حين يكون هؤلاء زعماء لطوائفهم. أمّا العسكريّون، كالموظّفين الإداريّين، فما من طوائف تحميهم عادةً. هكذا انتهت الحرب الأهليّة بعفو عام حوّل قادة الميليشيات إلى مسؤولين سياسيّين، وهكذا انتهت الحقبة السوريّة في لبنان بتحويل رموزها إلى ثوّار أمضوا السنوات الثلاثين الماضية في مقاومة الوجود (عفواً، تحوّل اسمه فجأة إلى الاحتلال) السوري.
الغريب في الأمر هو أنّ الاستقبال الذي أُعدّ للّواء جميل السيّد لدى خروجه من سجن رومية، بدا كأنّه يتعمّد إعادته إلى الحظيرة الطائفيّة. ولم يتمكّن السيّد من بدء كلامه إلّا بعد أن هُدّئ الجمهور بصرخات «اللهمّ صلِّ على محمّد...»، في ما بدا أنّه معموديّة سياسيّة للّواء السيّد تعيد تقديمه كرجل سياسيّ، لا أمنيّ، ونقطة الانطلاق لذلك هي الطائفة.
إلا أنّ السيّد الذي تذكّر فجأةً أنّ جدّه هو الحسين، أصرّ خلال مقابلته التلفزيونيّة الأخيرة على القول إنّ مهنّئيه كانوا من كل الطوائف، وبدا منطقه في إعادة تقويم دوره السابق قائماً على التمييز بين السياسي (الطائفي والفاسد؟) وبين العسكريّ (الوطني والنظيف الكفّ؟).
وقد برّر السيّد «استقلاليّته» عن السلطة السياسيّة خلال الحقبة السوريّة، بالقول إنّه استعان بالوجود السوري من أجل نيل «الحصانة» كي يكفّ السياسيّون عن التدخّل في عمل المؤسّسات، وذلك حمايةً لتلك المؤسسات من الفساد والمفسدين. هكذا، ببساطة، لم يجد السيّد أيّ داعٍ للاعتذار عمّا اقترفته يداه طيلة الحقبة السابقة، مكتفياً بالاستعانة بخطاب بناء المؤسّسات. لكن من العبثيّ النفخ في محاربة الفساد إلى درجة تجعل المؤسسات بمنأى عن النظام السياسي، وخاضعة لسلطة ضابط، مهما بلغت كفاءته أو وطنيّته، ومهما بلغ تسامح المصلحين مع بطشه.
فالفارق بين علاقة السياسي بالنظام الطائفي والمحاصصة وبين علاقة العسكريّ بهذا النظام، ينبغي ألا يقود إلى الحديث عن أفضلية أو تفوّق أخلاقيّ للضابط على السياسي لأن الأوّل غير مرتبط عضوياً بالنظام الطائفي. فالطائفية، حين تُنتقَد، ينبغي أن يصبّ نقدها في مصلحة تجاوزها إلى ما هو متقدّم عليها، لا إلى ما هو أكثر تقييداً لحرية الفرد منها. فالثابت يبقى هو الدفع نحو نظام أكثر ديموقراطيّةً. فإذا كانت الطائفية عبر إقحامها الجماعة وحقوقها تحدّ من حريّة الأفراد، ولا تجعل من علاقة الفرد بالمؤسسات الأساس في عمل النظام، فإنّ محاربة الطائفية بيد عسكرية لا تترك للأفراد أي حرية أصلاً، أو على الأقلّ، تجعل من حرية الفرد شأناً ثانوياً نسبةً إلى أولويّات أخرى تحدّدها اليد العسكريّة نفسها.
وما ينطبق على الطائفية ينطبق على الفساد أيضاً، علماً بأنّ الفساد نفسه قد يكون أداةً غير منظورة لتوزيع أكثر عدالةً للثروة، وخصوصاً حين تكون السياسات الاقتصادية المعتمدة من قبل الدولة شديدة التحيّز طبقيّاً.
اللبنانيّون مصابون بمرض الشهابيّة، بالحلم بذاك الضابط الذي سيقوم بالإصلاح رغماً عن الطاقم السياسي. وغالباً ما يتناسى اللبنانيون كيف اعترف شهاب نفسه بوصول طريق كهذه إلى حائط مسدود.
ذات يوم، نصح وليد جنبلاط إميل لحّود بألا يبدأ من حيث انتهى فؤاد شهاب. كم كان جنبلاط على حقّ.


 
posted by Thinking | Permalink |


0 Comments: