الاثنين، 17 نوفمبر 2008,7:37 م
تحايُل على النفس
خالد صاغية
الأخبار عدد الاثنين ١٧ تشرين ثاني ٢٠٠٨
انتهت اجتماعات مجموعة العشرين في واشنطن. المجموعة التي تضمّ عشرين دولة صناعيّة وناشئة رفضت فكرة فرض سلطة عليا لضبط النظام المالي الدولي، رغم الأزمة المستفحلة، معتبرةً أنّ ضبط السوق هو في الأساس مسألة وطنيّة. ووافقت، في المقابل، على إعطاء صندوق النقد الدولي دوراً أكبر في مراقبة النظام المالي. إذاً، سيبقى الصندوق هو الهيئة الماليّة الدوليّة العليا، وهي هيئة تسيطر عليها من دون شك الدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية. وهي هيئة حملت طويلاً لواء الترويج والفرض للسياسات النيوليبرالية سيئة الذكر، والتي يتحدّث الجميع عن ضرورة التراجع عنها. وهي هيئة لم تحُل دون وقوع الأزمة على الدول الكبرى، كما «الصغرى». الفارق هو في ما أشار إليه الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا حين قال إنّ الدول النامية تواجه أزمةً لم يكن لها يد في صنعها.
لكن، للأمانة، رافقت قرارات مجموعة العشرين دعوات لتحسين الصندوق صفته التمثيليّة، كي تعطى دول الجنوب دوراً أكبر في اتّخاذ القرارات. حتّى الرئيس الأميركي جورج بوش أشار إلى بحث «توسيع حجم الدول النامية في عمليات التصويت وتمثيلها». فتمثيل الدول المختلفة في الصندوق «يستند إلى التصنيف الاقتصادي» الذي كان قائماً لدى تشكيله عام 1944. من الواضح أنّ دولاً باتت مؤثّرة في الاقتصاد العالمي كالصين والبرازيل لا يمكنها أن تستمرّ بعيدة عن سلطة القرار في صندوق النقد. لكن حتّى هذه الدول التي حقّقت نجاحات اقتصاديّة بدأت ترتفع أصوات ضدّ إشراكها. وقد تبرّع لهذا الدور رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، ملوّحاً بسلاح الديموقراطيّة. فكلّ دولة، قبل إشراكها في قرارات الصندوق، ينبغي أن يخضع نظامها لفحص دم في مختبرات الدول الصناعيّة. فإذا كان وضع الصين والبرازيل على هذا النحو، فما بالك بسائر شعوب الجنوب المهمّشة؟
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّه حتّى تصنيفات عام 1944 لم تقم على معايير موضوعيّة، وإنّما اختيرت مقاييس هذه التصنيفات بدقّة وخبث كي تمكّن بعض الدول من السيطرة على القرار في الصندوق.
ما كان لهذا الكلام من أهمية اليوم لو لم يكن هذا الصندوق الذي يُعوَّل على تقاريره اليوم هو نفسه الصندوق الذي كادت مهمّاته تنحصر في العقود الثلاثة الماضية في «تأديب» الدول النامية. فكلّ دولة لا تعيد هيكلة اقتصادها وفقاً لأجندة الدول الكبرى، تُجبر على ذلك عبر إطلاق تسمية رسمية (وعلميّة) على هذه الأجندة: «برنامج التكيّف الهيكلي» لصندوق النقد الدولي. وكلّ من لا يرغب في اتباع هذا البرنامج، لن يحصل على قروض الصندوق الذي يفترض أنّه أنشئ في الأساس لإنقاذ الاقتصادات المعرّضة للانهيار من دون فرض شروط مسبقة.الطريف أنّ الولايات المتحدة التي مارست طويلاً هواية فرض برنامج التكيّف هذا على دول الجنوب بقصد إخضاعها اقتصادياً، وهو برنامج يتضمّن خطوات موجعة تصيب أساساً الفئات الشعبيّة، رفضَتْ (أي الولايات المتحدة) أن تطبّقه على نفسها، علماً بأنّ مؤشّرات الاقتصاد الأميركي منذ سنوات طويلة تضع الدولة الأميركيّة في صفّ الدول التي يجب أن تخضع لبرامج صندوق النقد «الإصلاحيّة». لكن، طبعاً، هذه البرامج، تماماً كإعلانات التدخين، تُصمَّم خصّيصاً لدول الجنوب، لا لدول اللّه المختارة. ولأنّها دول مختارة، أمكنها أن تمضي في مراكمة عجز ضخم في موازناتها، أسهمت في تمويله ـــــ ويا لسخرية القدر ـــــ الصين بصورة أساسية.
لا يشكّل رفض مجموعة العشرين فكرة سلطة عليا لضبط النظام المالي الدولي إلا إعفاءً جديداً للدول الصناعيّة الكبرى من إمكان فرض أيّ عقوبات عليها. ولتبقَ في سبيل ذلك صناديق المضاربة من دون أيّ تنظيم، وكذلك صفقات مبادلة القروض المتعثّرة. وذلك يعني، ببساطة، أنّ ما سبّب الأزمة الماليّة الحاليّة مرشّح للاستمرار.
فحتّى المدير العام لصندوق النقد الدولي دومينيك ستروس ـــ كان قلّل من أهمية الدور الجديد المعطى للصندوق. فإيلاء القطاعات المالية أهمية في «برامج التقييم» التي يجريها الصندوق ليس كافياً، وخصوصاً أنّ صدور برامج التقييم هذه غير منتظم، والأسوأ من ذلك هو أنّ الولايات المتحدة رفضت دائماً الخضوع لهذا التقييم. وأضاف ستروس ـ كان أنّ 13 دولة فقط من أصل الدول العشرين المجتمعة في واشنطن وُضعت لها هذه البرامج. وحين نقول «وُضعت لها برامج»، لا نعني طبعاً أنّها أجبرت على تحقيقها.
الأزمات الاقتصاديّة الكبرى تطيح عادةً المنظّمات الماليّة الدوليّة التي فشلت في أداء دورها، مفسحةً المجال أمام بروز منظّمات أخرى قائمة على عقد دولي جديد. التمديد في عمر صندوق النقد، ومنحه صلاحيّات إضافيّة، محاولة لإضاعة الوقت، وتحايل على النفس وعلى... التاريخ.

التسميات:

 
posted by Thinking | Permalink |


0 Comments: