الجمعة، 23 مايو 2008,12:39 ص
جمهوريّة 14 آذار
خالد صاغيّة
الأخبار عدد الخميس ٢٢ أيار ٢٠٠٨
تكشّفت أمس إحدى أحجيات المرحلة السابقة. فمن استمع إلى تصريح مستشار الرئيس فؤاد السنيورة، السيّد رضوان السيّد، عرف مصدر الحكمة التي طبعت بعض قرارات المرحلة السابقة. بقي علينا أن نستمع يوماً ما إلى صوت محمّد شطح.
لكنّ للسيّد، على الأقلّ، فضيلة الإفصاح عمّا كتمته صدور المتحاورين. تحدّث عن أشلاء العماد ميشال عون المرميّة في الشارع (ألم يُثر حديث الأشلاء هذا اشمئزاز الرئيس أمين الجميّل؟)، ونصح الأرمن بالمطالبة بحقوقهم في أرمينيا، بدلاً من بيروت.
يتجاوز كلام السيّد التصريح السياسي. إنّه يمثّل ثقافة جمهوريّة 14 آذار التي دُفنت، غير مأسوف عليها، في الدوحة. وهي ثقافة قائمة على الإقصاء، والخطاب العنصري تجاه طوائف بأكملها. بدأ الأمر مع الشيعة، وانتقل إلى الأرمن. تبرّع عدد من الكتّاب والمثقّفين والإعلاميّين بوصف المواطنين المعارضين بالحثالة تارةً، وبالحشرات طوراً، فضلاً عن استخدام نعوت الغوغاء والرعاع في وصف المتظاهرين والمعتصمين... ومن لم تساعده أخلاقه على استخدام أوصاف كهذه، تحدّث عن جماهير مضلّلة ومخطوفة، في استعادة مبتذلة لمفهوم الوعي الزائف الذي سبق للماركسيّين أن أمعنوا في استخدامه، كلّما واجهوا فشلاً. فالشيعة خطفهم حزب اللّه، والمسيحيّون ضلّلهم ميشال عون. وهما طائفتان تسيران، طبعاً، ضدّ مصلحتـ«هما» التي تحدّدها «ثقافة الحياة».
ذات يوم، عاد رفيق الحريري للعيش في لبنان، بعد إنجاز اتّفاق الطائف. عُيِّن رئيس حكومة بتوافق سوري ــــ سعودي ــــ أميركي. مثّل وجهاً مختلفاً لزعماء الميليشيات الذين حالفهم، وحمل وعود الربيع ومشاريع الإنماء والإعمار. مثّلت عودته مرادفاً لعودة الحياة في لبنان:
استقرار نقدي، مشاريع إعماريّة وثقة بالمستقبل. كانت الكلفة باهظة، لا بالحسابات الاقتصادية وحسب، بل بالحسابات الثقافية أيضاً. جرى الخلط بين إدارة الدول وإدارة الشركات. راج مفهوم خاص عن الربح والأعمال يتّخذ من المضاربات مثالاً له. أُقفلت صحف ووُزّعت القنوات الإعلاميّة محاصصةً بين القوى المسيطرة. انتشرت الرشى بين إعلاميّين كانوا يقفون في الصف نهاية كلّ شهر للحصول على «مساهمتهم» في دعم المشروع الإعماري.
جعل ذلك كلّه بعض المثقّفين يقفون إلى جانب الحريريّة بنسختها الأولى، لكنّهم فعلوا ذلك بخجل. كان واضحاً أنّ المال هو عامل الاستقطاب الأوّل للحريريّة التي لم تتمكّن من ابتداع أيديولوجيّة مهيمنة. وبقدر ما كان الاقتصاد يترنّح بين مأزق وآخر، كانت الحريريّة تفقد بريقها.اغتيل رفيق الحريري. زُلزلت الأرض تحت أقدام اللبنانيّين الذين انتابت معظمهم عقدة ذنب. لم ينتبهوا إلى أنّ الحريري الشهيد ليس هو نفسه الحريري الحاكم. وبقدر ما كانت صورة الضحية تُسقَط على صورة الحاكم، كانت الحريريّة تتحوّل إلى عقيدة مهيمنة.
بعد قرابة عقدين لرحلة أبيه، عاد سعد الدين إلى لبنان. شعر المثقّفون، بمعظمهم، بأنّ شيئاً ما فاتهم. فاتتهم بيانات التأييد للحريري الأب. فاتتهم قصائد المديح. كان من الصعب تحويل الحريري الابن إلى أيقونة، فتولّى شعار «حبّ الحياة» حياكة منظومة بدأت تبسط هيمنتها على البلاد، وهي هيمنة عجز الحريري الأب، وعجز النظام السوري، عن فرضها على اللبنانيين.إنّ هذه الهيمنة هي ما جرى دفنه في الدوحة. وإذا كان من انتصار، فهو هنا بالضبط. وهو انتصار مزدوج، لأنّ المعارضة أدركت هي الأخرى أنّها تستطيع السيطرة عسكرياً على المناطق التي تريد، لكنّ ذلك لن يسعفها في فرض الهيمنة على المجتمع اللبناني.
هذا الاستعصاء على مشاريع الهيمنة هو ما يجب أن يحتفل به اللبنانيون. الضحايا الوحيدون لسقوط الهيمنة قد وقّعوا مسبقاً على هزيمتهم. وقّعوها حين وقّعوا على نداء لإطلاق مقاومة لمواجهة حزب اللّه، من دون أن ينتبهوا إلى أنّ مفردات النداء ليست إلا مفردات الحزب نفسه.

التسميات:

 
posted by Thinking | Permalink |


0 Comments: