الأربعاء، 15 يونيو 2011,7:44 م
على رصيف تونسيّ
خالد صاغية
الأخبار العدد ١٤٣٧ الاربعاء ١٥ حزيران ٢٠١١

يكفي أن يعبر المرء في العاصمة التونسيّة، ويراقب من بعيد وجوه المارّة والجالسين في مقاهي الأرصفة، ليكتشف ماذا تعني الثورة. دعة وارتياح قلّما تحفل بهما المدن المتوتّرة عادة، واختفاء للكآبة والوجوم اللذين يطبعان المدن العربيّة. لم يبقَ من صخب التظاهرات إلا بعض شعارات كُتبت على عجل فوق جدران المدينة. غير أنّ الهواء بات خفيفاً فعلاً، وهذا ما يظهر جلياً وساحراً أينما ذهبت: من سائق التاكسي الذي يبتسم وهو يردّد الهتافات التي أطلقها في شارع الحبيب بورقيبة، إلى عاملات الفندق اللواتي أنهكهنّ تدفّق زوّار «سياحة حقوق الإنسان»، إلى العائلات التي عادت إلى شواطئ قرطاج كمن يطالب باستعادة ملك عام حرمته منه المافيا الحاكمة سابقاً، إلى محتسي الشاي بالصنوبر في سيدي بوسعيد، إلى ذاك الصحافي الذي تلمع عيناه إذ يقول: ما من مشهد أجمل، في العالم كلّه، من رؤية البشر يتجمّعون من دون أن يعرفوا كيف يتجمّعون، ويسيرون بخطى ثابتة نحو إسقاط الطاغية.
لكنّ خلف هذا الارتياح لزوال حمل ثقيل عن كاهل المدينة، والذي يعبَّر عنه عفوياً بامتهان إشارات السير التي هجرها رجال الشرطة إلى الزوايا البعيدة، تبرز مجموعة من التحديات والمسؤوليات:
ثمّة لجان مؤلّفة غالباً من معارضين سابقين وخبراء محليين تعيد رسم الخطوط التي تفتح البلاد أمام آفاق الحرية، وتضع ضوابط تمنع عودة الديكتاتوريّة بأشكال مختلفة: لجان للإصلاح السياسي، للتنظيم الإعلامي، للحدّ من الرشوة والفساد... لكن من حسن حظ التوانسة أنّهم لا يبنون دولة من الصفر. ثمّة إدارة حافظت على بنى المؤسّسات رغم كلّ الخراب الذي ألحقته الديكتاتوريّة بهذا البلد الصغير. ومن حسن حظّهم أيضاً، وجود شباب ومعارضين سابقين يشعرون أنّهم خرجوا إلى الحياة فجأة، وهم مستعدّون لوضع كلّ ما يملكونه من خبرات في سبيل بناء العدالة في وطنهم. هؤلاء يخافون الثورة المضادة، لكنّهم يقاومون يومياً نزعة نحو «التطهير» تصيب الثائرين على الظلم عادة. فهم يعرفون جيداً أنّ تلك قصّة إن بدأت، فلا أحد يعرف كيف تنتهي.
المسألة الإسلاميّة حاضرة في اتجاهين. الأوّل يخاف على حزب النهضة وعلى البلاد من سيناريو جزائري إن فاز الإسلاميّون بالسلطة، والثاني يخاف من الإسلاميّين على الأحزاب الأخرى التي تجاوز عددها الثمانين، لكنّها ما زالت تفتقر إلى الاستعدادات الجدية من أجل الانتخابات التي حدِّدت في تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل.
وإذا كانت بعض الأدبيات تخلط بين الديموقراطية والنيوليبرالية، فإنّ تونس حذرة جداً من هذا الخلط. فبن علي، أسوة بديكتاتوريين آخرين، اضطرّ إلى المحافظة على تقديمات اجتماعية أساسية في مجالي الصحة والتعليم، كي يحافظ على بعض ماء الوجه. لذلك انصرف وأقاربه إلى جني الأموال من مصادر أخرى كريوع الاحتكارات والاستملاكات. الديموقراطية التونسية الوليدة أمام تحدّي تحسين دولة الرعاية وتحصينها، وإثبات الفصل بينها وبين الديكتاتوريّة.
في ذاك الفندق وسط العاصمة تونس، كان العرب ينظرون إلى التوانسة كقدوة، والأوروبيّون يشربون نخب اختراق نموذجهم الديموقراطي للعالم العربي، متناسين كلّ الدعم الذي تلقّاه بن علي من حكوماتهم حتّى اللحظة الأخيرة. أمّا الأكاديميّ التركيّ، فكان يراقب وجبة الإفطار التي لا تشبه ما يعرفه عن وجبات سوريا ولبنان، ويقول مزهوّاً: «هذا يثبت أنّ ما من شيء اسمه عالم عربيّ».

 
posted by Thinking | Permalink |


0 Comments: