الجمعة، 29 أبريل 2011,6:40 م
القدرة على الكلام
خالد صاغية
الأخبار العدد ١٤٠٠ الجمعة ٢٩ نيسان ٢٠١١

في بدايات الثورة المصريّة، حاول النظام أن يلصق بالمتظاهرين تهمة تنفيذ «أجندة» إيرانيّة أو خدمة المشروع الإيراني أو العمالة لجهة خارجيّة. وكان المتظاهرون واعين لشرط تأكيد استقلاليّتهم من أجل ضمان نجاح ثورتهم. لذلك، امتلأت صفحات «الفايسبوك» ورسائل «تويتر» بدعوة الإيرانيين وحزب اللّه أيضاً إلى التزام الصمت بما يخصّ الثورة المصريّة. ولم تتمكّن تلك الاتهامات من أن ترقى إلى حدود جديّة. فوسائل الاتصال التي أتقن شباب ميدان التحرير استخدامها، إضافة إلى الوجوه الشبابيّة التي بدأت تتصدّر المشهد، كانت كفيلة بدحض الاتهامات التي كفّ النظام المصري عن الترويج لها خجلاً من مواطنيه الذين ملأوا الساحات.
يبدو المشهد في سوريا مختلفاً. فكلّ يوم، تزداد وتيرة تخوين المتظاهرين ومحاولات ربطهم بجهات ومشاريع خارجيّة. وقد عمد المدافعون عن النظام إلى التمييز بين صنفين من المحتجّين: صنف له مطالب مشروعة، وصنف آخر له مطالب مشبوهة. والشبهة تعني هنا الانتماء إلى فصيل متشدّد دينيّاً يملك مشاريع مرتبطة بجهات خارجيّة. وسرعان ما ينتقل هذا التصنيف إلى تقزيم الصنف الأوّل وتضخيم الصنف الثاني.
اللافت أنّ السهولة التي تطلق فيها تُهم كهذه لا تنبع من وضع سوريا الجيوسياسي، بقدر ما تعود إلى المناطق والطبقات التي يخرج منها المتظاهرون. فإضافة إلى كلّ ما يجري على الأرض، ثمّة على مستوى الخطاب رائحة عنصريّة وتعالٍ طبقيّ ضدّ المتظاهرين الخارجين من الأطراف والمهمّشين اجتماعياً واقتصادياً. كأنّ هذه الطبقات لا يمكنها أن تتظاهر للمطالبة بحقوقها، وكأنّ من السهل البيع والشراء في أوساطها، فتصبح عميلة لهذه الدولة أو تلك.
ويزيد في الطين بلّةً أنّه حتّى الآن، لم يظهر في المشهد الاحتجاجيّ السوريّ من يملك «بيسين» في دبي كوائل غنيم، ولا من يسمّون أنفسهم «مناضلي الكيبورد». هؤلاء، في أحسن الأحوال، يواكبون ما يجري، لكنّهم لا يصنعونه. حتّى المثقّفون المستقلّون الذين جرت العادة أن تُختزَل المعارضة السوريّة بهم، ليسوا المثقّفين العضويّين لأبناء درعا مثلاً الذين غالباً ما يؤدّي رجل الدين دور المثقّف عندهم.
تهمة العمالة، في هذه الحال، تكفّ عن كونها مجرّد تهمة. تصبح محاولة للإجابة عن سؤال أكاديميّ قديم: هل يمكن الهامش أن يتكلّم؟ لكنّ هذا السؤال المجازيّ يتحوّل الآن إلى سؤال شديد الواقعيّة، في أكثر من بقعة عربيّة.

 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الأربعاء، 27 أبريل 2011,6:27 م
المشاعات تُسقط النظام

خالد صاغية
الأخبار العدد ١٣٩٨ الاربعاء ٢٧ نيسان ٢٠١١

أمام ثورات العالم العربي، يبدو المشهد اللبناني باهتاً أكثر من أيّ وقت مضى. ولعلّ المفاجأة الوحيدة، وهي مفاجأة غير سارّة، هي قدرة هذا البلد الصغير على مفاجأتك دائماً بكم هو عصيٌّ على التغيير. فباستثناء تظاهرات متواضعة تحت شعار عام يدعو إلى «إسقاط النظام الطائفي»، يسود رضى جماعيّ عن إمساك أمراء الطوائف بطوائفهم. بمعنى آخر، ينعم البلد بغياب الديكتاتور، فيعدّ نفسه غير معنيّ برياح التغيير، ما دام اللّه قد أنعم عليه بديكتاتوريّين صغار يمنحون طوائفهم كامل الحريّة ما داموا محبوسين داخل القنّ، يردّدون بفرح أصوات البَقْبَقْبقيق.
لكنّ النظام الذي لم تهزّه الحروب الأهليّة وما يوازيها خطورةً، بات يئنّ تحت وطأة نقص السيولة. كأنّ لعبة تقاسم الجبنة القديمة لم تعُد متاحة. الهجوم على المشاعات حيث «الشاطر بشطارته» يتمكّن من تسوير قطعة أرض وادّعاء ملكيّتها، تماماً كما فعل المهاجرون إلى «العالم الجديد»، يشير إلى زوال القدرة على توزيع الثروة من داخل الدولة، ما دفع البعض إلى توزيع ممتلكات الدولة نفسها.
والواقع أنّ النظام حاول في السابق التحايل على شحّ موارد الدولة وتعاظم مطالب الطوائف، فلجأ إلى لعبة الدين العام الذي لم يموّل الإعمار كما هو شائع، بل موّل عمليّة رشوة زعماء الطوائف كي يصمتوا عن النهب المنظّم الذي جرى تحت شعار «الإعمار» نفسه، والذي تمكّن من قيادة توزيع الثروة إلى أصحاب المصارف والمضاربين العقاريّين. وها نحن، أسوة بدول كثيرة، عالقون في حلقة الدين المفرغة، حيث تتبخّر موارد الدولة في خدمة الدَّين، وتتبخّر معها قنوات التوزيع الرسميّة وغير الرسميّة.
وفي حمأة الصراع بين فريقَيْ 8 و14 آذار، لم يُشغَل أحد طبعاً بخلق فرص عمل جديدة، فيما أسهمت أحداث داخليّة وخارجيّة في سدّ أبواب الهجرة أو الحدّ منها، وخصوصاً في الإمارات العربيّة المتّحدة وسائر الخليج، وفي بعض مناطق أفريقيا.
إذاً، تراجعت فرص العمل، أبواب الهجرة لم تعد مشرّعة، الاستدانة للتوزيع لم تعد متاحة، موارد الدولة تمتصّها الفوائد. لكنّ كلّ ذلك لا يستدعي التفكير في إسقاط النظام أو إصلاحه. لبنان يرحّب بكم.

 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الثلاثاء، 26 أبريل 2011,5:48 م
الخيار القاتل
خالد صاغية
الأخبار العدد ١٣٩٧ الثلاثاء ٢٦ نسيان ٢٠١١

كلّ تظاهرة تتحوّل إلى جنازة. وكلّ جنازة تتحوّل إلى تظاهرة. لكنّ سوريا لا تدور في حلقة مفرغة. فتماماً كما يزداد عدد الجنازات، تتوسّع رقعة انتشار التظاهرات. بات على المرء أن يبحث عن مشاريع الإصلاح تحت شواهد القبور. فالخيار الأمني يبدو هو المنتصر. لا طاقة لقبول إصلاح نابع من صراخ الناس. على الناس أن يصمتوا أوّلاً، ثمّ تقرّر الدولة ما تمنّ به عليهم. فالذين ينبغي أن يجري الإصلاح على حسابهم، هم الذين يقومون بحملات «التطهير» ضدّ «المندسّين» و«العصابات المسلّحة» و«السلفيّين» وسائر «المتآمرين» على النظام. وإذا كانت الكرامة التي طالب بها الشعب السوري هي في الدرجة الأولى كرامته في مواجهة رجل الأمن، فها هو الأخير يردّ بنفسه، من دون حسيب أو رقيب، ليوجّه رسالة إلى من يهمّه الأمر: «صامدون هنا». إنّها القبضة الأمنية إذاً في مواجهة الإصلاح، بدلاً من الإصلاح في مواجهة القبضة الأمنيّة.
ولسبب ما، يبدو أنّ النظام برمّته رضخ لهذا الخيار، مستخدماً ذرائع متعدّدة، حتّى بدا كأنّ الانتماء لتيّار سلفيّ مثلاً، سبب كافٍ كي يتعرّض صاحبه للقتل في الشارع. قد يقال إنّ اعتماد خيار التصلّب والمواجهة هذا يعود إلى التعلّم من الدرسَيْن التونسي والمصري. كأنّ النظام السوري قرّر إفهام مواطنيه أنّه لن يقدم على أيّ إصلاحات غير شكليّة تحت الضغط، لأنّه إن قام بذلك فسيبدو ضعيفاً، تماماً كما جرى في مصر وتونس، ما يسهّل مطالبته بمزيد من التنازلات، تمهيداً للانقضاض عليه.
لكن، في سوريا تحديداً، ولأسباب عديدة أهمّها الصورة التي كانت تميّز الرئيس عن النظام، لم يكن الخيار الأمنيّ وحده متاحاً. ربّما كان الموقف يستوجب لحظة ضعف لا لحظة قوّة. لحظة انحناء أمام مطالب الذين طال تهميشهم، وخصوصاً أنّ هؤلاء لم يطالبوا إلا بالحرية والكرامة. هل فاتت الفرصة تماماً، وبتنا بعيدين عن أيّ مخرج إصلاحيّ؟ مشهد الدبّابات والمدرّعات في درعا ودوما يكاد يوفّر الإجابة. وإذا استمرّت الأمور على هذه الحال، فسيصبح استخدام حجج التدخّلات الخارجيّة أكثر ابتذالاً. فحين يسكن الموت في الأحياء والأزقّة، تنتفي الحاجة إلى مؤامرات ومتآمرين.

 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الخميس، 21 أبريل 2011,8:24 ص
السفر إلى البرازيل
خالد صاغية
الأخبار العدد ١٣٩٤ الخميس ٢١ نيسان ٢٠١١

شيء منّي لا يزال هناك. في أرض تلك الدار في حمص القديمة. شجرة الكبّاد، وشجرة الزيتون، والأعشاب النابتة بخجل في زوايا المربّعات الحجريّة. هناك حيث لا أبواب تفصل الجيران بعضهم عن بعض، بل مجرّد فتحات في الجدران. هناك حيث الدرّاجات الهوائية المتهالكة هي وسيلة النقل وسط الطرقات التي لا تكاد تتّسع للسيارات الحديثة. وهناك حيث يسير الأطفال حفاةً يحملون بفرح عصيراً برتقالياً عُبّئ داخل أكياس من النايلون.
كنّا نسمّيه «بيت العمّات» حيث يقيم أقارب. وفي بيت العمّات، لم يكن ثمّة مكان لغير الحبّ الذي لا يمكن اختباره تماماً لمن لا يعرف حمص وهواء حمص. غالباً ما كنّا نلجأ إلى ذلك البيت هرباً من أحد فصول الحرب الأهليّة التي عصفت بلبنان. مرّة، هرباً من القتل على الهويّة، ومرّة، هرباًَ من معارك التصفية التي قادتها حركة التوحيد في طرابلس، ومرّة، هرباً من معارك إخراج «التوحيد» من المدينة. كان الوصول إلى حمص بمثابة الوصول إلى شاطئ الأمان. ولم يخطر في بالي يوماً أنّ الرصاص القاتل سيبدّل مكانه.
شيء منّي لا يزال هناك. في أرض تلك الدار التي هجرها أهلها. لا شيء فيها سوى صناديق تحوي أغراضاً قديمة لأسماء سكنت داخل البراويز. كلّهم أصبحوا في الخارج منذ زمن بعيد، حتّى باتت عبارة «سافر عالبرازيل» مرادفة للموت. وحدهما العمّتان بقيتا هناك متّشحتين بالسواد، من دون أن أعرف يوماً سبباً لذاك الحداد الذي لا ينتهي. لكنّ سحراً كان ينشأ بين الحزن الكامن في الضلوع والعاطفة التي تفيض تجاه الهاربين من الجحيم اللبناني.
حمص الجديدة كانت أمراً مختلفاً. كنت أرفض في طفولتي أن أدعوها حمص. أبدأ بالبكاء ما إن تطأها قدماي، وأتمسّك بتنّورة والدتي صارخاً: «هذه سوريا وليست حمص. خذوني إلى حمص».
وإلى حمص القديمة، إلى حمص ـــــ البلد، عدتُ هذا الأسبوع عبر الصور القليلة التي وصلت إلينا. لكن، هذه المرّة، لم يكن سحراً ما شعرت به. إنّه الحزن نفسه. فائض الحبّ نفسه. لكنّ شيئاً آخر أفسد هواء المدينة. لعلّها رائحة الدماء التي سالت في الطرقات. دماء لأسماء نجهلها، وقيل لنا إنّها «سافرت عالبرازيل».

 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الاثنين، 18 أبريل 2011,6:06 م
المؤامرة
خالد صاغية
الأخبار العدد ١٣٩١ الاثنين ١٨ نيسان ٢٠١١

ما زالت التنازلات التي يقدّمها النظام السوري بعيدة عن الحدّ الأدنى المطلوب من الشارع. فهي من نوع العمليّات التجميليّة التي يراد منها تجنيب النظام الكأس المصريّة أو التونسيّة، وليست من العمليّات التي تحقّق تغييراً حقيقياً في بنية النظام، والتي تفتح أفقاً جديداً للعلاقة بين الدولة والمواطن. وحين تكون التنازلات من هذا النوع، لا بدّ من استدعاء نظريّة المؤامرات الخارجيّة. وما دامت المؤامرة موجودة، فلا بدّ من إطلاق النار عليها. هكذا، لم يصمد التعاطي السلمي مع التظاهرات أكثر من يوم واحد. أمّا الذين سقطوا برصاص القمع، فأُعطوا لقب «شهداء»، من دون كلمة اعتذار واحدة، ومن دون أن يحول ذلك دون سقوط ضحايا جدد ربّما يعود النظام ويكرّمهم عبر منحهم وسام الشهادة.
والواقع أنّ كثيراً من الأنظمة لجأت إلى «المؤامرة» لحماية نفسها. لكنّها كانت تعرف كيف تختار أعداءها. أمّا استدعاء التحريض «المستقبلي»، فليس ممّا يقوّي صورة النظام أمام شعبه. فحزبٌ حكم سوريا أربعة عقود لا يمكنه إقناع شعبه بأنّه مهدّد من خطر يمثّله حزب لبناني خسر السلطة في بلده. قد يكون الحريري حرّض الولايات المتّحدة على النظام في سوريا، وقد يكون هو وعدد من نوّابه على علاقة وثيقة بعبد الحليم خدّام أو سواه، لكنّ ذلك يبقى على هامش الهامش في ما يجري حالياً في سوريا.
فالناس الذين يخرجون إلى الشوارع، ويسقطون فيها شهداء بصمت وعزيمة، لا يعرفون أروقة السفارات، ولا معارضة منظّمة تجمعهم أصلاً. منهم مَن يريد إخراج الطبقة الوسطى من قمقمها، ومنهم مَن خرج مِن المناطق الأشدّ فقراً في سوريا، مِن الذين سُلبوا كلّ شيء، وها هم يرفضون أن يُسلَبوا ما بقي من كراماتهم. يغامرون بحياتهم وهم لا يملكون إلا قيودهم كي يخسروها. ما يريدونه حقاً هو أن يشعروا بأنّ الطرقات التي يسيرون عليها هي طرقاتهم، وأنّ الأوجاع المدفونة في صدورهم يمكنها أن تخرج إلى الهواء الطلق.
الإصلاح في سوريا يعني أمراً واحداً: أن يمتلك النظام شجاعة المتظاهرين في وجهه. والشجاعة لا تعني الضغط على الزناد، بل تعني دفن أعوام القهر في حفرة لا قاع لها.

 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments