الجمعة، 29 يناير 2010,10:22 ص
الدولة تتلقّى الشكر
خالد صاغية
الأخبار عدد الجمعة ٢٩ كانون الثاني ٢٠١٠
بعد حادثة الطائرة الإثيوبية، انبرى عدد من زعماء الطوائف للظهور على الشاشات وتقديم شكرهم للدولة وأركانها على تعاطفهم مع أهالي الضحايا، وعلى جهودهم في سبيل تسريع عمليّات الإنقاذ والبحث عن الصندوق الأسود، والتعرّف على هويّة أصحاب الجثامين. مشهد وُضع في خانة الوحدة الوطنية التي ازدادت رسوخاً تحت وطأة هول المأساة. إلا أنّه، في الواقع، مشهد محزن ومخزٍ حين تتحوّل الدولة إلى جهاز تطوّعي كالصليب الأحمر مثلاً، يستدعى للقيام بعمليّات إغاثة لا يمكن أجهزة الطوائف القيام بها. ثمّ يُقدَّم الشكر له باعتباره قد مدّ يد العون لأبناء الطوائف. فالضحايا اللبنانيون وأهلهم هم من رعايا هذه الطائفة أو تلك. والمسؤول عنهم هو زعيم الطائفة الذي يشكر الدولة على تقديمها خدمة لأبناء رعيّته. وما أداء المسؤولين إلا محاولة لنيل الإعجاب والرضى.لقد بذل بعض أركان الدولة جهداً، وإن من غير مردود مباشر. إلا أنّ ذلك لم يمنع التصفيق للتأثّر الصادق والنيّات الحسنة. وجرى الفصل بين النيّات والإمكانات. فالكلّ تصرّف بمسؤوليّة، لكنّ الدولة لا تملك تقنيات متطوّرة تؤهّلها للتعاطي مع كارثة بهذا الحجم. هذا الفصل هو فصل اصطناعيّ يضع ورقة التوت على المشهد الفاضح للدولة العاجزة، وهي عاجزة بالضبط لأنّ هناك من منعها من تطوير قدراتها. لأنّ هناك من لا يزال متمسّكاً بمنطق المحاصصة في التعيينات الإداريّة. لأنّ هناك من يحمي الفساد داخل الوزارات. وهذا «الذي هناك» ليس غريباً عن أركان الدولة أنفسهم الذين حاولوا الظهور بمظهر من يتحمّل المسؤوليّة. فإن كانت إمكانات الدولة ضعيفة، فهذا ليس نتيجة كارثة طبيعيّة، بل نتيجة كارثة من صنع البشر أنفسهم الذين يقفون اليوم عاجزين أمام سقوط الطائرة.مشهد أخير لا بدّ منه: نشرت الوكالة الوطنية للإعلام الخبر الآتي: «أعلن وزير الصحة محمد جواد خليفة إنجاز الخريطة الجينيّة لضحايا الطائرة الإثيوبية المنكوبة...». يتابع الخبر: «وبالنسبة إلى الضحايا الإثيوبيّين، أوضح وزير الصحة أنّ فريقاً سيذهب من لبنان إلى إثيوبيا لتحديد خريطة جينيّة للضحايا».
 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الأربعاء، 27 يناير 2010,8:36 ص
قاموس الطائرة
خالد صاغية
الأخبار عدد الاربعاء ٢٧ كانون الثاني ٢٠١٠
وجد اللبنانيون في الطائرة الإثيوبية المنكوبة مناسبة لتجديد مفردات قاموسهم. راجت فجأة تعابير وكلمات تستحق التوقّف عندها.الطيّار: ما إن شاع خبر تحطّم الطائرة، حتّى بدأت الألسن تتحدّث عن مخالفة قبطان الطائرة للتعليمات التي وُجِّهت إليه. وهو أمر قد يكون صحيحاً أو غير صحيح. لكنّ السرعة في تبنّي هذه الرواية، وتنقّلها بخفّة من شاشة إلى أخرى، وتقدّمها على سواها من الروايات، لا يمكن فصلها عن كون الطيّار إثيوبيّاً. فاجتمعت هنا رغبة تبرئة الذات مع تحويل الطيّار إلى كائن تُكثَّف فيه كلّ مشاعر التمييز ضدّ الشعب الإثيوبي، وهو ما برع فيه اللبنانيّون منذ زمن. وقد زاد الطين بلّةً الحديث عن ركّاب لبنانيّين و«كَمْ إثيوبي»، أو عن جنسيّات مختلفة إضافة إلى «أفريقي».الخطّ المباشر: حادثة تحطّم الطائرة الإثيوبية ليست فريدة في تاريخ الطيران. خطوط جويّة كبرى، ومطارات عريقة، تعرّضت لحوادث من هذا النوع. إلا أنّ عقدة التفوّق اللبناني تأبى الاعتراف بذلك. ارتفعت الأصوات المطالبة بخط مباشر، وكأنّ وجود خطّ كهذا سيمنع حصول كوارث مماثلة. إلا أنّ الخط المباشر غير مرتبط بالنظرة إلى النفس وحسب، بل سرعان ما تحوّل إلى جزء من المحاصصة الطائفية في البلاد. بات علينا إعداد إحصاءات عن وجهات سفر أبناء الطوائف اللبنانية، وتخصيص كلّ طائفة بعدد معيّن من الرحلات. ولم يتوانَ أحدهم عن الحديث عن «مؤامرة» نتيجة غياب خط كهذا.الضحايا: استخدمت هكذا بالجمع. إلا أنّ الجميع تعامل مع نوعين من الضحايا. الأوّل لبنانيّ وغربيّ يستحقّ متابعة أخباره وسرد حكاياته. أمّا النوع الثاني، فهو الإثيوبيّات اللواتي لا حكاية لهنّ. حتّى الموت لم يتمكّن من إزالة الفوارق.المغتربون: استغلّ حرّاس النظام المناسبة لتأبيد النظام الاقتصادي السائد في البلاد. فبدلاً من ذمّ النظام الذي لا يقدّم لمواطنيه إلا أبواب الهجرة، والذي يعتاش من فتات التحويلات الخارجيّة، بات المغتربون أبطالاً مثاليّين وجنوداً مجهولين في ضمان ديمومة نظام عصيّ على الأزمات. تحوّل الحزن على أفراد من لحم ودم قضوا في حادث مؤسف، إلى مديح لنظام يأكل أبناءه.القاموس يتّسع. لكنّ هول المأساة يستدعي وقف التصفّح هنا.
 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الاثنين، 25 يناير 2010,8:38 ص
ليس تماماً عن هايتي
الأخبار عدد الاثنين ٢٥ كانون الثاني ٢٠١٠
خالد صاغية
مثّل زلزال هايتي حدثاً مغرياً للتعليق والتحليل. فنادراً ما تُخلِّف كارثة طبيعيّة هذا العدد الهائل من الضحايا. وقد التفت كثيرون منذ البداية إلى أنّ ما جرى لا يمكن ردّه إلى غضب الطبيعة وحسب. فالزلزال نفسه ما كان ليخلّف كلّ هذا الموت، لو حدث في منطقة أخرى.إلا أنّ التوافق انتهى عند هذه النقطة ليبدأ بعد ذلك التنوّع والاختلاف في التفسيرات. ففيما ركّز البعض على التاريخ الاستعماري في هايتي، والنهب الأوّلي الذي تعرّضت له منذ قرون، وصولاً إلى السياسات الأميركيّة غير البعيدة، فضّل آخرون التركيز على تفاسير أخرى. ولعلّ الأكثر رواجاً كان انتقاد شكل الحكم الذي نشأ بعد الاستعمار، وخصوصاً غياب الديموقراطية وانتشار الفساد. وإذا كان يساريّون وليبراليّون ويمينيّون قد اشتركوا في هذا التفسير الأخير، فإنّ اليمين خرج من زلزال هايتي رافعاً حجّة جديدة لمصلحة الاستعمار وعدم قدرة الشعوب «المتخلّفة» على حكم نفسها بنفسها.إلا أنّ استخدام مأساة هايتي لكيل المدائح للاستعمار، والتغافل عن دوره في صنع المأساة، لم يمثّل أقصى التطرّف اليميني. فهذا الموقف الأخير تولّاه من طاب له ردّ المأساة إلى ثقافة سائدة في تلك الجزيرة، ثقافة سمّيت مضادّة أو معادية للتقدّم. فالماضي الاستعماري والفساد والديكتاتورية أمور مشتركة بين دول العالم الثالث. أمّا العداء المتأصّل والمتجذّر للتقدّم، فهذا ما يميّز هايتي، وما يتحمّل مسؤوليّة الكارثة التي حصلت.والحال أنّ هذا الموقف الثقافوي الذي روّج له «مبشّرون» غربيّون وردّده تلامذة نجباء لهم في سائر أنحاء العالم، ليس جديداً، ولا خاصاً بالشعب الهايتي. فلا يزال العرب والمسلمون يعانون الموقف نفسه في تفسير حال بلدانهم. فهناك، كما في هايتي، تقول الرواية نفسها، لم يكن الاستقلال خطوة حكيمة، إذ فتح الباب أمام سيادة ثقافة معادية للتقدّم، وأوصد الباب على رياح الغرب التقدّمية.وهناك، كما في هايتي، لا يمكن وصف هذا الموقف بالعنصريّة. لكنّه البديل التمييزي الذي ابتدعه الغرب حين باتت العنصريّة أمراً محرّماً. وحتّى لا يلتبس الأمر على أحد، لم يُلقَ الحرم على العنصريّة فعليّاً إلا حين ارتدّت على أهلها، أي حين جاء شخص يدعى أدولف هتلر واستخدم الخطاب العنصريّ، لكن هذه المرّة ضدّ بشر غربيّين، ميّز بين أعراقهم ودياناتهم.فما دام إعلان التفوّق العرقيّ ممنوعاً، كيف يعلن الرجل الأبيض تفوّقه؟ ابحثوا عن الثقافة.
 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الخميس، 21 يناير 2010,9:52 ص
وطن أبو موسى

خالد صاغية

الأخبار عدد الخميس ٢١ كانون الثاني ٢٠١٠


لو لم يأتِ أبو موسى إلى لبنان، كان يجب إحضاره.
فمنذ فترة غير قصيرة، والنوّاب والوزراء والقادة يتحدّثون كأنّ في فمهم ماءً. يبدأون جملة ولا يكملونها. يُسألون عن موضوع، فيجيبون عن آخر. ومنهم من أصيب بازدواج الشخصية، فوضع واحدة على جنب، وأطلق العنان لشخصيّته الأخرى. فمع تأليف حكومة الوحدة الوطنيّة، ثمّ زيارة الرئيس سعد الحريري إلى دمشق، طويت المواضيع الخلافيّة. من كان يتحدّث عن خطر سلاح حزب الله، بات يحذّر من الحرب الإسرائيلية. من كان يريد رأس النظام السوري، بات ينظّر للعلاقات المميّزة بين لبنان وسوريا. من كان يحفر الخنادق بين اللبنانيّين، بات يتغزّل بالوحدة الوطنيّة.
كان لا بدّ من ملء الفراغ. وكالعادة، وجد الرئيس نبيه برّي ما يسلّي به القوم. فاستفاق على تطبيق الدستور، وإنشاء هيئة وطنية للبحث في إلغاء الطائفية السياسية. أصاب أكثر من عصفور بحجر واحد. أقفل أسطوانة تطبيق اتفاق الطائف. دغدغ مشاعر العلمانيين واليساريين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في الخندق نفسه مع «الأستاذ» الذي بدا كمن باعهم ورقة لوتو. وفيما هم يترقّبون يوم السحب، عادت الحيويّة إلى السجالات. حماسة من هنا، خوف من هناك. استعادة لمحاسن الطائفية، فدعوة إلى تعديل الدستور، فاستنفار جديد للتراصّ الطائفي، فتحذير من اللعب بتوازنات البلاد... وكي تزيد القاعة التهاباً، أضيف إلى السجال خفض سنّ الاقتراع. مطلب تقدّمي آخر وضعه برّي على الطاولة. مزيد من الحماسة. عاد كلّ زعيم إلى آلته الحاسبة، وبدأ جمع الأرقام.
الحياة السياسية تنتعش من جديد، من دون سوريا ومن دون حزب اللّه ومن دون 14 آذار... لكن بقي أمر ناقص. فهذه الحيويّة الجديدة سقطت هي الأخرى في فخ السجالات. لا بدّ من رافعة وطنية تعيد اللحمة إلى المشهد السياسي. أهلاً وسهلاً بأبي موسى. أهلاً وسهلاً بفلسطين والفلسطينيين. أهلاً وسهلاً بالمخيّمات وسلاح المخيّمات... فكالعادة، لا تستنفر الوحدة الوطنيّة اللبنانية إلا بوجه «الفلسطيني». فما بالك إن كان هذا الفلسطيني آتياً من زمن الحرب الأهليّة، وقد بلغ من العمر ما يسمح له بإطلاق الكلام على عواهنه؟
جاء أبو موسى، و«اللّه جابو». ها هم اللبنانيون يتكلّمون لغةً واحدة، ويتسلّحون بموقف واحد. موقف كانوا قد اتّخذوه بالإجماع على طاولة حوار.




 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الأربعاء، 20 يناير 2010,9:50 ص
ليسانس

خالد صاغية

الأخبار عدد الاربعاء ٢٠ كانون الثاني ٢٠١٠


إلى جميع أهالي القرى،
مَن منكم رفض الانضمام إلى جيش النازحين إلى المدن، وفضّل البقاء في أرضه والاهتمام بزراعتها، وفضّل البقاء في قريته للتركيز على حرفة محليّة، وفضّل البقاء في بلدته وفتح فيها دكاناً ليساعد أهلها على الاكتفاء الذاتي... يريدون حرمانكم من الترشّح لرئاسة بلديّتكم.
إلى جميع أهالي القرى،
مَن منكم لم يملك المال الكافي لدخول الجامعات، ولا مَلَك والداه قطعة أرض باعاها ليدفعا نفقات تعليمه، ولا هاجر أخوه البكر إلى الخليج أو أفريقيا ليرسل له المال... يريدون حرمانكم من الترشّح لرئاسة بلديّتكم.
إلى جميع أهالي القرى،
لا يكفي أنّ الدولة تعاقبكم فتحرمكم من خدماتها الأساسية، من صحة وتعليم، بل إنّها تريد أن تعاقبكم مرّة ثانية، فتحرمكم من حقّكم في تمثيل أنفسكم لكونكم لا تملكون شهادات عليا.
فوفقاً لرزمة من «الإصلاحات» المتعلّقة بالانتخابات البلديّة، يجري التداول باقتراح يشترط على رئيس البلدية ونائبه أن يكونا حائزين شهادة جامعية معترفاً بها.
يؤكّد اقتراح كهذا مرّة أخرى حجم المسافة التي تفصل بين المسؤولين والناس، وقلّة درايتهم بأحوال القرى والبلدات النائية، عدا عن نظرة التعالي التي تجعل من الشهادة الجامعية شرطاً يفوق أهمية الخبرة العملية ومتابعة شؤون المواطنين. فأيّ منطق ذاك الذي يفترض أنّ أصحاب الشهادات هم أكثر دراية بحاجات الناس، وخصوصاً أنّ عدداً كبيراً من متخرّجي الجامعات يضطرّون إلى السكن خارج قراهم بحثاً عن فرصة عمل؟ يكاد الأمر يكون إلغاءً مقنّعاً للانتخابات البلدية، إذ يعيد للمراكز حقّ التحكّم بالأطراف.
المسألة ليست مسألة حقوق أو مساواة وحسب. فالشعب اللبناني إجمالاً من محبّذي الوجاهة، وغالباً ما تربط الوجاهة بالعلم. ووفقاً لذلك، انتُخب كثيرون من حملة الشهادات وقاطني المدن رؤساء بلديات في قراهم. فكانت النتيجة في كثير من الأحيان اعتبار أولئك أنّ آخر إنتاجات الفن هو محاولة محاكاة المدن، أو «تمدين» القرى، و«خُود على باطون». إشارات سير من هنا، مستديرات من هناك... وكلّ ذلك في طرقات هي أشبه بالأزقّة. وكلّ ذلك بحجّة التمدين والتنمية. لقد بات العمل البلدي في أحيان كثيرة مضاداً للتنمية المحلية، والبركة بـ«المتعلّمين».
الغريب أنّ الحكومة التي تبحث في فرض شرط الشهادة الجامعية على رئيس البلدية، هي نفسها التي تلعثم رئيسها وتأتأ مرّات كثيرة قبل أن ينهي بصعوبة تلاوة بيانها الوزاري!


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الثلاثاء، 19 يناير 2010,10:26 م
لبنان آخر

خالد صاغية

الأخبار عدد الثلاثاء ١٩ كانون الثاني ٢٠١٠


منذ أشهر، افتُتح مطعم وملهى في الطبقة السفلية من المبنى. الروّاد ليسوا من الفتيان. فالأسعار، على ما يبدو، تفرض عمراً ووضعاً مادياً ميسوراً. وتماشياً مع هذا العمر، تختلف الموسيقى في هذا الملهى عمّا يمكن المرء أن يسمعه في معظم الأمكنة الأخرى. فالأغاني التي يصل صوتها بسهولة إلى الطبقة الثانية، هي بمجملها من أغاني الثمانينيّات: سامي كلارك، طوني حنّا، وآخرون ينشد أغنياتهم القديمة مغنّون شباب.
في البداية، كان الوضع مزعجاً. فأن يصلك جوّ السهر والفرح إلى بيتك رغماً عنك، لمجرّد أنّك تسكن في مبنى الملهى نفسه، ليس مسلّياً دائماً، وخصوصاً حين يكون الفرح بعيداً عنك. لكن، مع الوقت، بتّ أستعيد البعد الحنينيّ في تلك الأغاني. فالثمانينيات في لبنان، رغم الرومانسيّة البدائيّة في بعض أغانيها، كانت تحمل شيئاً ما صادقاً وحقيقياً. كانت حرب وموت ودمار، وكان الناس حين يغنّون يبحثون عن فرح حقيقي. الفنّانون أنفسهم كانوا يشقّون طريقهم بصعوبة، لكنّهم كانوا صادقين في علاقتهم مع كلمات أغانيهم، وفي الطريقة التي يصنعون بها مظهرهم: الشراويل المزركشة، الشاربان الكبيران، تسريحات الشعر... كانت محاولة جادّة لبناء شخصية فنية لبنانية، والبحث عن مستمعين لبنانيين. محاولة لاستكمال ما بدأه الأخوان رحباني على صعيد الأغنية اللبنانية، لكن بطريقة «لايت»، وأحياناً «سوبر لايت».
لم تكن عمليّات التجميل قد دخلت على الخط، ولا البحث عن لهجة هجينة إرضاءً للسوق الخليجيّة، ولا احتكارات المتعهّدين. كان المغنّي بسيطاً. والكلمات بسيطة. واللحن بسيطاً. حتّى الصوت الطاغي للأورغ آنذاك كان بسيطاً وجميلاً هو الآخر. كأنّ الجميع آتون من عالم «الدنيي هيك»، لا يحتاجون لأكثر من نصيحة من المختار كي يقنعوا بحياتهم.
جيل كامل من فنّاني تلك الحقبة دفع ثمن بساطته، وسعيه وراء أغنية محلية لم يكن يمكنها الوصول إلى بلاط الأمراء.
بالمناسبة، هل من يذكر أغنية تقول: «حبّيني شويّه شويّه، عالموضة اللبنانيّه، فنجان قهوة عبكرا، وكاس زغيّر عشيّه»؟ هل يذكرها روّاد الملهى نفسه؟ نهاية الثمانينيات لم تكن نهاية عقد. كانت نهاية لبنان نفسه. لبنان آخر بدأ بعد ذلك. لم يجد شكله الحقيقيّ بعد. وقد لا يجده أبداً.


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الاثنين، 18 يناير 2010,7:16 م
يسرى العامري

خالد صاغية

الأخبار عدد الاثنين ١٨ كانون الثاني ٢٠١٠


حين يتّصل المدير العام للأمن العام بقاضٍ، أو يبعث له من يرهّبه، حتّى يصدر حكماً مخالفاً لقناعاته، نعرف حينها أنّنا نعيش في نظام أمنيّ. أمّا حين يُترَك القاضي يمارس صلاحيّاته، فيصدر حكمه، ثمّ يرفض المدير العام للأمن العام تنفيذ الحكم، بحجّة أنّه «يفهم» أكثر من القاضي، فنكون عندها قد خرجنا تماماً من النظام، وصرنا نعيش في الفوضى أو في حارة «كل مين إيدو إلو»، وبوسع غوّار الطوشة أن يضع أكثر من نجمة على كتفيه.
وحين يرفض مدير عام تنفيذ مضمون أكثر من كتاب وجّهه إليه الوزير المختصّ، وحين لا يملك الوزير المختص ما يفعله حين «يتمرّد» المدير العام، تتأكّد عندها حال الفوضى، ويصبح غوّار الطوشة هو المجرم وآمر السجن في آن واحد.
وحين يصدر ما صدر من كلام على لسان المدير العام للأمن العام بحق القضاء، ولا يتفوّه وزير العدل بأيّ كلمة، علماً بأنّه الوزير نفسه الذي تقدّم بمشروع قانون لإتاحة سجن الصحافيين الذين ينتقدون القضاء، وهو مشروع وصل إلى عتبة مجلس الوزراء وأُجِّل البحث فيه في اللحظة الأخيرة... نعرف عندها أنّه ما من أحد يريد صون القضاء، وإنّما هناك من يريد كمّ الأفواه.
وحين يقترن ذلك بأقاويل من نوع أنّ المدير العام «محسوب» على رئيس الجمهوريّة، وأن لا أحد يريد مشكلة الآن مع رأس الدولة، نعرف عندها أنّ الجمهوريّة باتت أقرب إلى جمهوريّة موز.
كلّ ذلك عيّنة صغيرة ممّا يجري على أراضي الجمهورية اللبنانية. عيّنة طفت على السطح بسبب قضيّة لاجئة عراقية تدعى يسرى العامري صدف أن عرف الإعلام بقضيّتها. المؤكّد أنّ ثمّة قضايا شبيهة لا تحصى، وهي لا تطال اللاجئين وحسب، تُظهر التصدّعات الآخذة في التمادي داخل النظام.
العزاء الوحيد هو أنّ قرار الإفراج عن العامري قد جاء بعد حملة من الإعلام والمجتمع المدني، ما يؤكّد أنّ داخل هذه الجيفة اللبنانية ما زال هناك شيءٌ ما ينبض بالحياة. مشهد الموت لم يصادر المكانَ كلّه بعد.

 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الخميس، 14 يناير 2010,7:19 م
العيش مع الأزرار

خالد صاغية

الأخبار عدد الخميس ١٤ كانون الثاني ٢٠١٠


بعد التوتّر الشديد الذي عاشه اللبنانيّون في السنوات الخمس السابقة، وجدوا أنفسهم فجأة داخل فقّاعة اسمها الفراغ. لكن، من حسن الحظ، ومن محاسن الصدف، وحفاظاً على توازنهم النفسي، سرعان ما جرى تفعيل نظام جديد يردّ لحياتهم بعض المعاني التي خسروها بعدما تهاوت رايات الثامن والرابع عشر من آذار.
الآن، لجميع الراغبين، يمكن الاتصال على الرقم 1، للحصول على أحدث التفاصيل التي ستجري خلال 2010 وأدقّها. فإذا كنت متردّداً أيّ جورب ترتدي، أو ما هي الوجبة التي ستطلبها عند الغداء، فستجد على الخط من يحل لك مشكلتك.
أمّا الضغط على الرقم 2، فيفسّر لك أحلامك. لا يجري الحديث هنا عن الأحلام التي رآها أبطال الساحتين ذات يوم، بل الأحلام التي تراها حقاً حين تضع رأسك على المخدّة. الرقم 2 جاهز لتحليل أيّ منام، مهما كانت تعقيداته.
وللّذين تحوّل الإحباط لديهم عارضاً صحيّاً، يمكن الاتصال بالرقم 3 للحصول على آخر مستحضرات الأعشاب لوجع الرأس، أمراض الكبد، فقدان الذاكرة، نشفان الشرايين، ترقّق العظام، فضلاً عن كل أنواع السرطانات. التوصيل مجاني، والخدمة ممتازة.
الرقم 4 مخصّص للعازبين الباحثين عن شريك. اتصال واحد تعطي فيه بعض المواصفات يقلب حياتك رأساً على عقب. يُفضَّل أن يكون المتّصل ذكراً لتسهيل المهمّة. فنسبة النساء إلى الرجال باتت مرتفعة بسبب الهجرة.
الرقم 5: أبراج، حتّى تعرف كيف تبدأ نهارك. أي طريق تسلك، وبأي مزاج تخاطب زملاءك في العمل.
الرقم 6: دليل الطوائف. أدخل اسم أيّ لبناني، يُجبْك المتّصل عن طائفته.
الرقم 7: نشرة الأخبار. نعرف أنّ هذا بالضبط ما تهرب منه، لكنّ النشرة الخلوية صُنعت خصّيصاً للّذين لم يتمكّنوا من الإقلاع عن متابعة الشؤون السياسيّة دفعة واحدة. إنّه علاج على مراحل، يعطي المشتركين مقدّمات النشرات الإخباريّة فقط، مع جرعات من السمّ تُخفّف تدريجاً.
الرقمان 8 و9 مخصّصان للنكات. اضغط على الرقم 8 لتستمع إلى آخر نكتة، واضغط على الرقم 9 كي تحصل على فرصة تخبير نكتة. نعم، فبعض اللبنانيين لا يجدون هذه الأيام من يستمع إلى نكاتهم. لقد باتوا لا يُضحكون أحداً.


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الاثنين، 11 يناير 2010,7:21 م
طيّ صفحة

خالد صاغية

الأخبار عدد الاثنين ١١ كانون الثاني ٢٠١٠


«إنّ العودة إلى الملابسات التي سبقت السابع من أيّار/ مايو لا فائدة منها إلا في إطار إثارة الغرائز عند بعض من يغلب عليهم الأفق الضيّق أو الانغلاق». الكلام لوليد جنبلاط الذي يبذل جهداً كبيراً هذه الأيّام لطيّ صفحة الماضي. الصفحة التي قال، عن حق، إنّها «كادت تقضي على العيش المشترك في كلّ لبنان». وهو في مغادرته لهذه الصفحة، يواجه صعوبات لا يُحسَد عليها بين مناصريه وأبناء طائفته. وإذا كان الطرف الآخر جادّاً في المصالحة، فلا بدّ من أن يسهّل للزعيم الدرزي مهمّته بدلاً من تعقيدها.
لكن، إذا كان من المفهوم أن يكون جنبلاط قد ضاق ذرعاً بمن يحاول ثنيه عن المضيّ في طريقه الجديد، فيما هو يدرك تماماً أنّه لا طريق عاقلة غيرها في الوقت الراهن، مهما كانت الصعوبات، فإنّ ذلك لا يسوّغ طيّ صفحة الماضي من دون مراجعة، ولا رشق كلّ المعترضين على ما يجري بتهمة إثارة الغرائز.
لقد قبل جمهور وليد جنبلاط ذات يوم مسألة الغشاوة على العينين. لكن، هل هي الغشاوة نفسها تعود الآن، أم هناك مراجعة جدّية لمواقف وقرارات خاطئة جرّت البلاد إلى شفير الهاوية؟ صحيح أنّ المرحلة السابقة كانت حافلة بالتوتّرات، وقد صبّت الاغتيالات مزيداً من الزيت على النار، لكنّ مهمّة القادة ضبط هذه التوتّرات، ومنع انفلات الغرائز في الشارع. لا يكفي وضع كلّ ما جرى في خانة «فورة غضب»، وذلك احتراماً لوليد جنبلاط نفسه، واحتراماً لجمهوره، واحتراماً للطرف الآخر الذي يتصالح وإيّاه.
لا تقتصر ضرورة المراجعة على جنبلاط وحده. فليس من يبذل جهداً لتغيير موقعه هو وحده المطالَب بمراجعة. الثابتون في مواقعهم مطالبون أيضاً بمراجعة. هل يعقل أنّه لم يصدر صوت واحد في تحالف 8 آذار يحاول أن يقول إنّ خياراً آخر كان متاحاً أمام حزب اللّه في السابع من أيّار؟ وأنّ الحزب الخارج من انتصار تمّوز لم يعرف كيف ينتصر على المتآمرين حقاً عليه، وسقط سريعاً في فخ الصراعات الطائفيّة؟
ما جرى في الشويفات، أمس، ليس ثانويّاً. حسبه أن يهدّئ النفوس المحقونة. لكنّ المصافحات وحدها لا تكفي، فيما البلاد تطوي كلّ فترة صفحة، تودّع معها حرباً، فتستقبل حروباً أخرى.


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الأربعاء، 6 يناير 2010,7:23 م
التخلّص من صديق

خالد صاغية

الأخبار عدد الاربعاء ٦ كانون الثاني ٢٠١٠

دخلتْ في 2009 مفردة جديدة إلى اللغة الإنكليزية. مفردة بدأ يستخدمها مدمنو بعض مواقع الإنترنت، قبل الاعتراف بها رسميّاً، فتصبح فصيحة تماماً. المفردة هي فعل: To Unfriend، أي التخلّص من صديق. فإذا كان لدى أي مستخدم عدد من الأصدقاء يتشارك معهم في الصور الشخصيّة، والأحاديث، والدعوات... تُكَفّ هذه المشاركة ما إن يضغط المستخدم على زرّ يزيل اسماً من لائحة الأصدقاء. وتماماً كما بات من السهل في هذا العالم كسب الأصدقاء، واستعادة صداقات قديمة، بات من السهل أيضاً التخلّص منهم من دون إحراجات أو تبريرات أو جلسات مصارحة على فنجان قهوة. فقط اضغط على الزرّ، تخسرْ صديقاً.
المؤسف حقاً أنّ هذا الفعل من غير الممكن استخدامه على نطاق أوسع في الحياة اليوميّة، فتكفّ عن إزعاجنا أخبار وصور لشخصيّات فرضت نفسها في الحياة العامّة.
تصوّروا مثلاً أنّ بإمكاني أن أضغط على زرّ To unfriend الرؤساء الثلاثة معاً، فلا نرى صورهم ولا نسمع أخبارهم ولا تُرسَل إلينا بياناتهم. نكفّ فجأة عن سماع خطابات عن بناء الدولة ممّن يهدمونها، ومحاضرات عن مكافحة الفساد من الغارقين فيه حتّى آذانهم.
تصوّروا مثلاً أنّ بإمكاني أن أضغط على زرّ To unfriend رياض سلامة وهو يتحدّث دوريّاً عن عبقريّته في زيادة ودائع مصرف لبنان بالتزامن مع زيادة عدد الفقراء.
تصوّروا مثلاً أنّ بإمكاني أن أضغط على زرّ To unfriend المجلس الأعلى للخصخصة.
تصوّروا مثلاً أنّ بإمكاني أن أضغط على زرّ To unfriend مايك فغالي وهو يقرأ المستقبل للمتّصلين به هاتفياً، فيخبرهم عن صحّة الزوج والأولاد، وعن العروس المناسبة، وعمّا يجب أن يطبخوه اليوم. تصوّروا زرّاً To unfriend مايك فغالي والمتّصلين به في الآن نفسه.
تصوّروا مثلاً أنّ بإمكاني أن أضغط على زرّ To unfriend البرامج المسمّاة فكاهيّة، فيختفي ثقل الدم عن الشاشات دفعة واحدة.
تصوّروا أنّ بإمكاني أن أضغط على زرّ To unfriend باراك أوباما. تتوقّف فجأة تلك الابتسامة المليئة بالثقة وبشعور الكائن البشري بأنّه بلغ المجد. لقد عَرْبَش ووصل، ويريد تذكيرك بهذا الأمر مع كلّ ابتسامة.
تصوّروا أنّ بإمكاني أن أضغط على زرّ To unfriend هذه الزاوية من الصحيفة. زرّ واحد فقط، وأرتاح من الكتابة اليوميّة.



 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الثلاثاء، 5 يناير 2010,7:27 م
المحاصصة والكفاءة

خالد صاغية

الأخبار عدد الثلاثاء ٥ كانون الثاني ٢٠١٠


لدى كلّ موسم تعيينات، يجد أولياء الأمر في هذه البلاد ضرورة لبدء حفلة تكاذب جديدة. فما دامت التعيينات تخصّ مناصب داخل جهاز الدولة، وما دامت الدولة هي التي تدفع رواتب المعيَّنين، فلا بدّ من تحوّل أولياء الأمر إلى رجال دولة حتّى يجري إمرار الصفقة.
هكذا ستُصَمّ آذاننا، من الآن وحتّى إنجاز التسميات، بنظريّات عن الكفاءة والمعايير. وبدأت أعلى المراجع تروّج للمزاوجة بين المحاصصة والكفاءة. فلا مانع، يقال، من أن تراعى المحاصصة (وهي، في خطابات أولياء الأمر، شرّ لا بدّ منه تماماً كالطائفية)، وأن تُعتمَد في الوقت نفسه الكفاءة. وربّما كان وليد جنبلاط الأبلغ تعبيراً عن هذا الأمر، إذ تساءل، وهو السياسي العتيق الذي شهد حفلات عدّة من هذا النوع، في أكثر من عهد: «لماذا توضع دائماً المحاصصة على نقيض مع الكفاءة؟ وإذا لم يكن هناك مهرب ممّا يسمّى محاصصة، ألا تستطيع كل الأطراف أن ترشّح الكفاءات التي لديها القدرة على النهوض بالإدارة العامة وعصرنتها وتحديثها وإصلاحها؟».
ويكرّر الأمر، بطريقة أو بأخرى، وافدون جدد إلى النادي السياسي، يريدون هم أيضاً إثبات أنّهم رجال دولة، لا بل أنّهم الأمل في بناء الدولة، علماً بأنّ وصولهم إلى مراكزهم كان ناجماً عن المحاصصة نفسها.
ووفقاً للمنطق المتداول، يصبح المطلوب التوفيق بين ثلاثة أمور على الأقلّ:
أن يكون الموظّف المُعيَّن مرضيّاً عنه من رأس الطائفة، وأن يكون الموظّف نفسه مرضيّاً عنه من الرأس السياسي للطائفة، وأن تتناسب مؤهّلاته مع المنصب المخصّص للطائفة، وأن لا يكون هناك أي فيتو عليه من أي رأس لأي طائفة ومن أي رأس سياسي لأي طائفة، وأن تكون لديه مؤهّلات موضوعيّة لتولّي منصبه للجديد.
لا تكمن المشكلة في صعوبة إيجاد شخص يجمع كلّ هذه التوافقات، بل في وجود تناقض جوهري بين المحاصصة والمؤهلات الموضوعية. ذلك أنّ الشرط الأساسي للمناصب المتنازع عليها هو الاستقلالية وإعلاء خدمة الشأن العام على أيّ اعتبار آخر، وهذا ما لا يتماشى مع المحاصصة، أي مع عدم قدرة ذاك الموظّف الرفيع على إغضاب وليّ نعمته، وأصدقاء وليّ نعمته، وأصدقاء أصدقاء وليّ نعمته.
يدرك أولياء أمرنا هذا التناقض جيّداً. لكنّ المرحلة تتطلّب منهم أداء دور رجال دولة. وهو دور عرف نبيه برّي كيف يخرجه حين دعا إلى اعتماد المعايير الموضوعية، وإن تعذّر ذلك، فأنا «بدّي حصّتي».
للتذكير فقط: حين نتكلّم عن حصّة فلان، إنّما نتكلّم عن بَشَر، وعن موظّفين رفيعين. تخيّلوا مثلاً مواطناً يسأل المدير العام لأمنه العام: «حصّة مين إنتَ؟».


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الاثنين، 4 يناير 2010,7:25 م
برج دبي

خالد صاغية

الأخبار عدد الاثنين ٤ كانون الثاني ٢٠١٠


أكثر من 160 طبقةً، 330 ألف متر مكعب من «الكونكريت»، 31400 طن من القضبان الفولاذية المستخدمة في هيكل البناء، 57 مصعداً... الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يفتتح برج دبي، البرج الأعلى في العالم، في الذكرى الرابعة لتولّيه مقاليد الحكم في الإمارة.
«لم نكن نعلم إلى أيّ ارتفاع سنصل»، يقول أحد مهندسي المشروع، «كان نوعاً من الاستكشاف...».
يحمل هذا البرج دلالات رمزيّة صارخة:
إنّه يروي حكاية دبي نفسها. التجربة التي لم يكن يعلم أحد إلى أيّ مدى ستنجح، وأيّ حواجز ستتخطّى. بنيت الإمارة خطوة خطوة، بتفاؤل المؤمنين بمعجزة اقتصاد السوق. فورة عمرانيّة لم يسأل أحد عن حدودها. «دعه يعمل، دعه يمرّ»، واليد الخفيّة تتكفّل بالباقي.
إنّه التجربة مكثّفةً ببناء واحد. نهم عمرانيّ وإسراف في الإنفاق غير نابع من حاجة عمليّة. عرض يستولد الطلب. وإبهار بصريّ يخفي وراءه ألف حكاية عمّا يجري في كواليس السوق، وفي خفاياه السوداء.
إلا أنّ افتتاح برج دبي بعد الانحدار الذي تشهده دبي نفسها، يرمز أيضاً إلى الطريقة التي يجري التعامل بها مع الأزمة المالية العالمية، في دبي ولكن أيضاً في أكثر من منطقة في العالم. تصلّب وعناد في مواجهة الأزمة، وإصرار على المضيّ في اتباع السياسات الاقتصادية نفسها التي أدّت إلى الأزمة.
لقد بدأ هذا الخطّ يحفر طريقه منذ اللحظة الأولى حين أُعيدت كلّ الفوضى الناشئة إلى «الطمع»، لا إلى خلل في السياسات. فقد كان كلّ شيء ليسير على ما يرام، لو لم تكن النفس البشريّة أمّارة بالسوء، ولو لم يدفع الجشعُ بعضَ المديرين إلى تحقيق فائض من الأرباح. وُضعت النفس البشرية جانباً، وتدخّل جهاز يدعى الدولة، ونهب مكلّفيه الضريبيّين ليعيد إنقاذ المصارف نفسها، لتعود وتعمل بالطريقة نفسها!
بعد فشل قمّة كوبنهاغن، قال الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز: لو كان المناخ مصرفاً، لتمّ إنقاذه. في الإمارات، راج الحديث عن «العجرفة» بدلاً من «الطمع». باتت المسألة تتعلّق بشخصية حاكم دبي وعلاقاته بالأسرة الحاكمة في أبو ظبي. أمّا الأبراج، فمستمرّة في الارتفاع، تحت رحمة الأخ الأكبر هذه المرّة. فدبي ليست مجرّد إمارة. إنّها نموذج للغواية في منطقة يحكمها الغاوون وأصحاب الهراوات.


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments