الجمعة، 29 مايو 2009,12:11 م
«فشر» ماو زيدونغ!

خالد صاغية

الأخبار عدد الجمعة ٢٩ أيار ٢٠٠٩


يبدو الجهد الاستثنائي الذي تبذله وزارة الداخليّة والبلديات وبعض مؤسسات المجتمع المدني لإضفاء طابع ديموقراطي على الانتخابات النيابيّة المقبلة، كما لو أنّه محاولة يائسة لإلباس هذه الانتخابات لباساً حديثاً. هي محاولة يائسة، لأنّ الجسم السياسي (والمجتمعي) عصيّ على لباس كهذا. فخُطب السياسيّين توحي كأنّنا أمام انتخابات مخترة. أمّا تأليف اللوائح، فبات مفضوحاً أنّه لم يتمّ وفقاً للانقسامات السياسيّة. ولا يخفي بعض أقطاب الفريقين نيّتهم إعادة التموضع بعد الانتخابات، كما لو أنّهم في نزهة داخل سوبر ماركت. وتخوض 14 آذار الانتخابات مثلاً من دون رموزها الأساسيين. وقد بزّت لائحتها في الأشرفية كلّ أخواتها لدى عرض البرنامج الانتخابي، إذ بدا أعضاؤها كمرشّحين لانتخابات بلديّة، همّهم تحسين الأرصفة.
بات إصرار اللبنانيّين على التمسّك بانقسامهم بين أنصار 8 و14 آذار، أشبه بمحاولة لستر الفضيحة. فقد تحوّل هذان التاريخان إلى «كودَيْن» يخفيان خلفهما كمّاً من الهراء والتفاهات.
وليتوَّج هذا المشهد، كان لا بدّ من الاستماع إلى مقابلة تلفزيونية جرت ليل أمس، وطرح فيها أحد قادة اللوائح الانتخابية سلسلة من العناوين التي تصلح لنهضة شاملة في البلاد. الغريب في الأمر أنّ ما طرحه القائد والزعيم ليس مدرجاً في سياق حملته الانتخابية، والنقاط التي تحدّث بها كانت موضوعة على الرفّ لسنوات قبل موعد الانتخابات. فهي، على ما يبدو، مجرّد عناوين إصلاحيّة يرفعها السياسيّ كلّما وجد نفسه مخنوقاً بواسطة النظام الطائفي الزبائني الذي يعمل هو نفسه على استمراريّته وإعادة إنتاجه.
ماذا يريد الزعيم الوطني بعدما أوصل البلاد، هو وأقرانه من زعماء الطوائف الأخرى، إلى حافّة الحرب الأهليّة؟ الإجابة بسيطة: يريد مجتمعاً مدنيّاً في مواجهة المجتمع الأهلي. يريد إعادة طرح عناوين الصراع الطبقي، والعمل النقابي. يريد الزواج المدني الاختياري، وقانوناً جديداً للأحوال الشخصيّة. يريد قانون انتخاب قائم على النسبيّة، ومجلس نوّاب غير منتخب على أسس طائفيّة، وإنشاء مجلس شيوخ «تتسلّى» فيه الطوائف. وأخيراً، يريد الآن «ثورة ثقافيّة». «فشر» ماو زيدونغ!


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الجمعة، 22 مايو 2009,6:24 م
«أعيدوا المال لسائق الأجرة»

خالد صاغية

الأخبار عدد الجمعة ٢٢ أيار ٢٠٠٩

كانت البلاد تبحث عن منقذ، فجاءها رجل ديناميّ حمل معه وعوداً ورديّة. لم يكن الرجل عند حسن ظنّ مواطنيه. ترك مقعده الرئاسي بعد عشر سنوات والديون متراكمة على الدولة، والفساد مستشرٍ بطريقة فاقعة. نزل الناس إلى الشوارع. قرعوا الطناجر. وطالبوا بحكم جديد.
طارت رؤوس وجاءت رؤوس مكانها. تدخّلت الدولة لكبح جماح السوق. تحسّنت مؤشّرات كثيرة. إلّا أنّ ثقافة الفساد بقيت منتشرة. دخلت في صميم التركيبة السياسية والاجتماعية. بات يُحكى عن الفساد كأنّه جزء من الحياة اليوميّة. واحتلّت البلاد المرتبة التاسعة بعد المئة على لائحة الفساد العالمية. حتّى مغنّو التانغو مجّدوا الفساد قائلين: «من لا يطلب شيئاً لا يحصل على شيء، ومن لا يسرق شيئاً يكن أخرق».
تقف تلك البلاد على عتبة شهر من الانتخابات التشريعيّة. السياسيّون الذين يظهرون على الشاشات لا يتمتّعون بثقة الناس. إنّهم متّهمون بالفساد قبل أن ينبسوا ببنت شفة. يبحث المواطنون عن وجه يُهدون إليه أصواتهم فلا يجدون. بات المجتمع هائماً يبحث عن بطل، فوجده فجأةً في سائق تاكسي باتت قصّته على كلّ لسان. ذات يوم من أيّام نيسان، نسي أحد الركاب حقيبة يد على المقعد الخلفي. فتحها السائق، فوجد فيها مبلغاً كبيراً من المال. فكّر لبرهة بقرض سيّارته، لكنّه سرعان ما قرّر إبلاغ الشرطة، وإعادة الحقيبة إلى صاحبها.
صاحب الحقيبة قال له: «أنت قدّيس» وأعطاه مكافأة. أنشئ له موقع على الإنترنت زاره 55 ألف شخص تحت عنوان «أعيدوا المال لسائق الأجرة». فبدأت الهدايا تُغدَق على السائق. كتب له أحد الزوّار: «ما دام هناك مواطنون مثلك، لدينا أمل بإنقاذ البلد». وقال آخر: «لو كان ساستنا يتمتّعون بـ10% من شهامتك، لكنّا بألف خير!». وقدّم آخرون للسائق إطارات جديدة لسيّارته وبذلة وزجاجة نبيذ، فيما دعاه البعض إلى قضاء عطلة في ساو باولو وميامي ونيويورك...
ليست هذه القصّة خياليّة. لقد حدثت فعلاً مع المواطن سانتياغو غوري (49 سنة). أعاد إلى بلاده إحساسها بقيم كادت تنساها، فتنبّهت إلى أين قادتها الطبقة السياسيّة، إلى أي منزلق اقتصادي، سياسي، و...أخلاقي. وكان ذلك في بيونس آيرس على بعد 12 ألف كيلومتر من بيروت.



 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الأربعاء، 20 مايو 2009,1:02 م
في تمجيد 7 أيّار

خالد صاغية

الأخبار عدد الاربعاء ٢٠ أيار ٢٠٠٩


«إن الذات التي أخذت قرارها في السقوط في جحيم الخيانة لا ترتكب فعل الخيانة لأسباب ماديّة أو حتى لأسباب عقيديّة فقط...». صاحب هذا القول هو الموقوف زياد الحمصي الذي اعترف بجرم التعامل مع إسرائيل. كتب كلامه هذا عام 1997. وفقاً لاعترافاته، لم يكن عميلاً في ذاك الوقت، ولم يوافق على التعامل مع إسرائيل إلا عام 2007. قبل ذلك، تنقّل الحمصي بين عدّة منظّمات مقاتلة ضدّ إسرائيل، وشارك في مواجهات مع الإسرائيليّين أعوام 1969 و1973 و1978 و1982، قبل أن يتعرّض للسجن على أيدي الاستخبارات السوريّة. وروت الصحافة أنه كان فاعلاً في معارك سعدنايل ـــــ تعلبايا التي حصلت إثر أحداث السابع من أيار 2008 (راجع مثلاً «الأخبار»، الاثنين 18 أيّار 2009، العدد 821).
السرعة التي اعترف بها الحمصي بعمالته لافتة. بدا كمن يريد أن يتخلّص من عبء أثقل كاهله. لا يزال التحقيق جارياً معه ومع سواه من المتّهمين بالانتماء إلى شبكات التجسّس. إلا أنّ ما رشح حتى الآن من اعترافات ومن سِيَر، يدعو إلى التأمّل. فمن الصعب اعتبار المال عاملاً وحيداً في حسم قرار التعامل مع إسرائيل. وبالنسبة إلى من بدأوا التعامل حديثاً، لا يمكن فصل أعمالهم عن الأجواء السياسيّة أو الطائفيّة المتوتّرة التي نشأت في السنوات الأربع الأخيرة.
لا يسوّغ ذلك فعل الخيانة، لكنّ اللبنانيّين ـــــ وحزب اللّه تحديداً ـــــ مدعوّون إلى ألا يمرّوا مرور الكرام على سيرة الحمصي. نحن مدعوّون إلى التفكير مليّاً في ما إذا كانت المواقف السياسيّة والخطاب التشنّجي الذي لا يراعي في أحيان كثيرة التنوّع الطائفي الموجود في البلاد، أو هواجس الكتل الطائفيّة، بدأ يساعد في دفع بعض الأفراد دفعاً للتعامل مع العدوّ. إذا صحّ هذا التحليل، نكون أمام حالة خطيرة. ويكون الكلام الذي يقال عادة في بعض الأماكن المغلقة عن تفضيل عدوّ على خصم داخليّ، قد بدأ يأخذ طريقه إلى الفعل، وليس الفاعل وحده مذنباً.
لقد تزامن اكتشاف شبكات التجسّس مع ذكرى السابع من أيّار التي اعتبرها الأمين العام لحزب اللّه ذكرى «مجيدة». بدا نصر اللّه منسجماً مع نفسه، وتدرّج بحججه منطلقاً من أولويّة المقاومة والحفاظ على سلاحها ومن واجبه تجاه مقاتليه الذين سقطوا في أحداث السابع من أيّار، أولئك الذين لا يستطيع، كقائد، أن ينظر إليهم إلا كشهداء. لكنّ هذا الانسجام مع النفس ليس كافياً لمخاطبة الناس الذين نفترض أنّهم الشعب اللبناني أوّلاً. فكيف يُصرَف هذا المنطق في إحدى حارات بيروت، في أحد مبانيها المختلطة طائفياً وسياسيّاً؟ كيف يُصرَف هذا المنطق لدى جزء من اللبنانيين غير مؤيّد للمقاومة؟ لا بل كيف يُصرَف لدى مؤيّدي المقاومة، أم أنّ حزب اللّه بات حاسماً بأنّ الواقفين ضدّ استخدام سلاحه في الداخل هم أنفسهم الواقفون ضدّ استخدامه في الخارج؟
لا تقاس كلّ الأمور بمنطق الكلفة العسكريّ. قد يكون 7 أيّار قطع الطريق على حرب أهليّة أطول، وضحايا أكثر. لكنّ السياسيّ الذي يريد أن يؤكّد أنّه يستطيع أن يحكم البلاد، لا يمكنه أن يبرّر عنفاً أهلياً (حتّى لو رآه اضطراريّاً) بتباهٍ وتمجيد، بل يفعل ذلك بحزن وألم.
يعلم حزب اللّه تماماً أنْ لا إجماع على المقاومة في لبنان، وأن لا إجماع على أيّ مقاومة في أيّ بلد آخر. ويعلم أيضاً أنّ انتهاء الإدارة السوريّة للبلاد فرط الإجماع اللفظي على المقاومة. السؤال الذي على الحزب أن يجيب عنه هو ماذا سيفعل في ظلّ انكشاف هذا الإجماع بعد خروج الجيش السوري؟
ليس الحزب في موقع «المحشور» داخلياً. نسج تحالفات عابرة للطوائف حتّى يتمكّن من الحصول على أكثريّة نيابيّة تحميه وتحمي سلاحه. وإذا خانته الأكثريّة، فلديه النظام الطائفي ومطالباته بالديموقراطية التوافقيّة. وإذا لم يحترم النظام اللبناني رأي أكثريّة إحدى طوائفه، فإن لديه اتفاق الدوحة الذي تحدّث عن عدم استخدام السلاح في الداخل، لكنّه أحال مسألة السلاح إلى طاولة الحوار. والحوار هنا ليس إلا مصطلحاً كوديّاً يعني عكسه تماماً، أي إنّ مسألة السلاح غير مطروحة للحوار حاليّاً، وإنّه لا يمكن طرحها أصلاً إلا في ظروف داخلية وإقليمية ودولية مختلفة تماماً.
إزاء هذا التحصين، كان الأجدى عدم صبّ الزيت على النار. فالحرائق حين تندلع لا تميّز بين قويّ وضعيف.


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الجمعة، 15 مايو 2009,1:01 م
المعركة الغبيّة

خالد صاغية

الأخبار عدد الجمعة ١٥ أيار ٢٠٠٩


ليس سرّاً أنّ الأكثريّة النيابيّة تخوض أقوى معاركها الانتخابيّة في وجه مرشّحي التيّار الوطني الحرّ. لكن يمكن القول، من دون كبير مبالغة، إنّ هذه الأكثريّة تخوض في الوقت نفسه أغبى معاركها الانتخابيّة في وجه مرشّحي التيّار الوطني الحرّ ذاته. لننظر إلى شعار يرفعه أحد المرشّحين الذي يخوض معركته ضدّ النائب ميشال عون شخصياً في كسروان. يرفع المرشّح شعار: «نريد الماروني الماروني». وهو يلخّص بذلك مجموعة شعارات لعدد من المرشّحين تزايد في الانتماء المسيحي على مرشّحي التيّار الذي لم يبقَ من برنامجه إلا تحقيق المشاركة المسيحيّة، وضرورة تحلّق المسيحيّين حول زعيم واحد كي يعيد لهم حقوقهم «المسلوبة» في جمهوريّة الطوائف. كأنّ خصوم عون لم تكفِهم هدية وليد جنبلاط له حين تسرّب شريط «الجنس العاطل»، ولم تكفِهم أصلاً خطيئة التحالف الرباعي.
ومن لم يحاول المزايدة على «مارونيّة» ميشال عون، سقط في فخ آخر. ففيما أوحت الأكثرية أنّ مشكلتها الأساسية مع عون هي تغييره لمواقفه السياسية، وخصوصاً في ما يتعلّق بسلاح المقاومة والقرار 1559، فإنّ مرشّحيها الأساسيّين عادوا وتباروا في نفي الصفة السياسية عن المعركة الانتخابية. هكذا ببساطة فعل ميشال المر في المتن، وهكذا يفعل مرشّحو الأكثرية في كسروان. أليس في ذلك تسليم مسبّق بكسب الجنرال عون للمعركة، لكون محاربة خياراته السياسية لا تلقى صدى شعبياً؟ وليكتمل عدم «التسييس»، دُفِع نسيب لحود إلى خارج المتن، وتحارب فارس سعيد في جبيل لائحةٌ ثانية، وتؤلَّف لائحة زغرتا من دون سمير فرنجيّة. أيّ وصفة هذه؟ ولأيّ معركة انتخابيّة؟ إنّه الإقرار المسبق بالهزيمة.
وبعيداً من هذه العبقريّة في قيادة المعركة، يقرّر معيّرو عون بما يسمّونه التحاقه بزعامة الطائفة الشيعيّة أن يتسوّلوا مقاعد نيابيّة مسيحيّة في مناطق لا يملكون فيها أيّ ثقل تمثيليّ، كأنّما يريدون تأكيد التحاقهم هم.
إزاء هذا الإفلاس الكامل، كان لا بدّ للأكثريّة من استنهاض نفسها، فوجدت أخيراً التهمة الملائمة: عون يريد تغيير النظام!


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الجمعة، 8 مايو 2009,1:00 م
الجمهوريّة أوّلاًً

خالد صاغية

الأخبار عدد الجمعة ٨ أيار ٢٠٠٩


حين رفع تيار المستقبل شعار «لبنان أوّلاً»، صدرت مواقف منتقدة فسّرت الشعار على أنّه دعوة إلى نقل لبنان من طرف فاعل في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي إلى رأس حربة في المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي. ورأت تلك المواقف أنّ القول بتحييد لبنان ليس عملياً إلا نقله إلى الضفّة الأخرى من الصراع في المنطقة.
لم يحسن تيار المستقبل الدفاع جيّداً عن شعاره، لكنّ الموسم الانتخابي فسّر كلّ شيء. فالحملة الانتخابية التي نظّمها تيّار المستقبل على طول الأراضي اللبنانيّة حملت عشرات الشعارات التي تنتهي كلّها بكلمة «أوّلاً». فالمستقبل الذي يرفع اليوم شعار «انتخب أوّلاً»، أرفقه بـ«الأمن أوّلاً»، «الشغل أوّلاً»، «الاستقلال أوّلاً»، «العلم أوّلاً»، «العدالة أوّلاً»... إلى آخر الـ«أوّلاً» التي تضيع معها الأولويّات، ما يعني أنّ المهمّ في شعار «لبنان أوّلاً» لم يكن لبنان نفسه أو موقعه من الصراع في المنطقة، بل مجرّد ولع بتتفيه الأولويّات.
ثمّة من كان عليه أن ينبّه إلى أنّ «أوّلاً» ليست لازمة، ليست مثل «إيه ويلّا». لكنّ ما قام به المستقبل يندرج في إطار تراث تياره الذي كان مؤسّسه الرئيس رفيق الحريري قد رفض لدى تسلّمه السلطة تحديد الأولويّات الاقتصاديّة، معتبراً أنّ اللبنانيّين بحاجة إلى كلّ شيء، ناسفاً بذلك جدوى وجود علم الاقتصاد نفسه القائم على توزيع الموارد وفقاً للأولويّات.
يومها، كان تعميم الـ«أوّلاً» جزءاً من سياسة الوعود الربيعيّة، ومن صورة الرجل القادر على تحقيق أحلام اللبنانيّين، الآتي من خارج نادي الميليشيات وأمراء الحرب. رجل الأعمال الناجح الذي سيعمّم نجاحه على إدارة مرافق الدولة.
لم ينتبه القيّمون على تيّار المستقبل اليوم إلى أنّ الوضع بات مختلفاً، وأنّهم ورثوا فشل سياسات عمرها خمسة عشر عاماً، وأنّ برنامج تيار المستقبل نفسه الذي كان قد أذيع في مهرجان سابق، يتضمّن نقاطاً عديدة هي نقيض ما انتهجه الرئيس الحريري خلال سنوات حكمه.
لم ينتبه المستقبليّون إلى أنّ الدين العام لم يتنامَ بفعل عوامل المناخ، وأنّ المضاربات العقاريّة التي رعوها حوّلت بيروت عاصمة عصيّة على سكّانها، وأنّ المؤشّرات الاقتصادية كلّها تشير إلى تدنّي مستوى عيش اللبنانيين.
حتّى لو تذرّع المستقبليّون بالوصاية السوريّة، وبما يسمّونه النظام الأمني اللبناني ـــــ السوري المشترك، فإنّ ذلك لا ينفي أنّنا بتنا في مرحلة مختلفة، وأنّ آمال اللبنانيين باتت مختلفة، وطموحاتهم أكثر تواضعاً. لم نعد ذاك الشعب الخارج من حرب أهليّة، والذي يصدّق أنّ أفقاً جديداً سيفتحه السلم الأهلي. بتنا نعرف أنّ هذا النظام المسؤول عن الحرب هو نفسه المسؤول عمّا بعدها، وعمّا بعد بعدها.

■ ■ ■

انتخب أوّلاً.
الاستدانة أوّلاً. إفقار الفقراء أوّلاً. إثراء الأثرياء أوّلاً. الإعفاءات الضريبية للشركات أوّلاً. مصلحة البنوك أوّلاً. فرض الرسوم على المواطنين أوّلاً. التهجير أوّلاً. «تشتشة» السيّاح الخليجيّين أوّلاً.
انتخب أوّلاً.
النفخ في نار الطائفيّة أوّلاً. أموال العائلة الحاكمة أوّلاً. مرجعيون أوّلاً. التحريض أوّلاً.
انتخب أوّلاً.

■ ■ ■

في مقابل الأولويّات الضائعة، يطرح ميشال عون شعار «الجمهوريّة الثالثة». وهو في ذلك يبدو أقرب إلى رفيق الحريري حين جاء أوّلاً إلى الحكم. الثاني تحصّن بكونه أتى من خارج الزمن الميليشيوي، بأنّه لا يشبه سواه من السياسيين، بأنّه لا ينتمي إلى الطاقم السياسي أصلاً. أمّا عون، فيتسلّح بكونه لم يشارك في الحكم طيلة الحقبة السوريّة، وبأنّه هو الآخر لا ينتمي إلى الطاقم السياسي التقليدي. وإذا كان الحريري دغدغ آمال الناس بخلفيّته الناجحة كرجل أعمال، فإنّ عون يفعل الشيء نفسه من كونه قائد الجيش السابق الذي خاض حرب تحرير ضدّ الجيش السوري وحرب إلغاء ضدّ الميليشيات، ويرفع عالياً شعار مكافحة الفساد وإصلاح ما أفسده السياسيون التقليديون وحلفاء سوريا.
لكنّ الحريري جاء في زمن أنهكت فيه الحروب الطوائف. أمّا عون، فيطرح جمهوريّته الثالثة في لحظة الاستنفارات الطائفيّة القصوى. تلك اللحظة التي تبدو فيها الجمهوريّة في أسفل الأولويّات. في أسفل أولويّات عون نفسه، ما لم تكن طائفته على رأس تلك الجمهوريّة، أو ما تبقّى منها.


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments
الأربعاء، 6 مايو 2009,12:58 م
الضابط والسياسي

خالد صاغية

الأخبار عدد الاربعاء ٦ أيار ٢٠٠٩


للقضاء أسبابه في احتجاز الضبّاط الأربعة، وله أيضاً أسبابه في إطلاقهم. لكنّ الرمزيّة السياسيّة للحدثين أكبر من أن يجري تجاوزها. فبالنسبة إلى الطاقم السياسي الذي قاد «ثورة الأرز» أو التحق بها، كان لا بدّ من سجن هؤلاء الضبّاط حتّى لو لم يكونوا متورّطين باغتيال الرئيس رفيق الحريري. ذلك أنّ مشروع الهيمنة السياسية على البلاد، من إقصاء قوى عن السلطة إلى تغيير في المصطلحات والمفردات السياسية، وصولاً إلى إعادة رواية التاريخ بما يتلاءم مع مقتضيات «الثورة»، لا يتلاءم مع صورة قادة الثورة كمتعاونين سابقين مع «الوصاية السوريّة». فانتفاضة الاستقلال لا يمكن أن يقوم بها المتعاونون، بل المتضرّرون والاستقلاليّون أباً عن جَدّ. وإذا كان القادة السياسيّون للبلاد بريئين من «شبهة» التعاون، فلا بدّ من البحث عن متعاونين آخرين، كالقادة الأمنيّين مثلاً.
كان إبعاد الضبّاط ضرورياً إذاً لانطلاق مشروع الهيمنة الـ14 آذاريّة. وجاء إطلاقهم في اللحظة التي بدا فيها واضحاً فشل قوى 14 آذار في مشروعها، نتيجة التغيّرات الداخليّة والخارجيّة. وتماماً كما كانت لحظة اعتقال الضباط الأربعة هي لحظة إعلان بداية مشروع الهيمنة، فإنّ لحظة إطلاق الضبّاط الأربعة هي لحظة الإعلان عن نهاية ذاك المشروع.
غير أنّ «سهولة» احتجاز الضبّاط مرتبطة أيضاً بـ«صعوبة» محاسبة السياسيّين في لبنان. لا علاقة لذلك بارتكابات الضبّاط خلال الحقبة السوريّة، ولا بتوزيع المسؤوليّات بينهم وبين السياسيّين. حتّى إنّ أحد الضبّاط المفرج عنهم رفع شعار «المحاسبة»، وعنى به محاسبة ضبّاط وإعلاميين وقضاة، مرفقاً شعاره هذا بغزل للسياسيين القريبين منهم. فاعتبر أنّ سعد الحريري مضلَّل وأنّ وليد جنبلاط يشفع به أنّه مهضوم!
فمحاسبة السياسيين متعسّرة في لبنان حين يكون هؤلاء زعماء لطوائفهم. أمّا العسكريّون، كالموظّفين الإداريّين، فما من طوائف تحميهم عادةً. هكذا انتهت الحرب الأهليّة بعفو عام حوّل قادة الميليشيات إلى مسؤولين سياسيّين، وهكذا انتهت الحقبة السوريّة في لبنان بتحويل رموزها إلى ثوّار أمضوا السنوات الثلاثين الماضية في مقاومة الوجود (عفواً، تحوّل اسمه فجأة إلى الاحتلال) السوري.
الغريب في الأمر هو أنّ الاستقبال الذي أُعدّ للّواء جميل السيّد لدى خروجه من سجن رومية، بدا كأنّه يتعمّد إعادته إلى الحظيرة الطائفيّة. ولم يتمكّن السيّد من بدء كلامه إلّا بعد أن هُدّئ الجمهور بصرخات «اللهمّ صلِّ على محمّد...»، في ما بدا أنّه معموديّة سياسيّة للّواء السيّد تعيد تقديمه كرجل سياسيّ، لا أمنيّ، ونقطة الانطلاق لذلك هي الطائفة.
إلا أنّ السيّد الذي تذكّر فجأةً أنّ جدّه هو الحسين، أصرّ خلال مقابلته التلفزيونيّة الأخيرة على القول إنّ مهنّئيه كانوا من كل الطوائف، وبدا منطقه في إعادة تقويم دوره السابق قائماً على التمييز بين السياسي (الطائفي والفاسد؟) وبين العسكريّ (الوطني والنظيف الكفّ؟).
وقد برّر السيّد «استقلاليّته» عن السلطة السياسيّة خلال الحقبة السوريّة، بالقول إنّه استعان بالوجود السوري من أجل نيل «الحصانة» كي يكفّ السياسيّون عن التدخّل في عمل المؤسّسات، وذلك حمايةً لتلك المؤسسات من الفساد والمفسدين. هكذا، ببساطة، لم يجد السيّد أيّ داعٍ للاعتذار عمّا اقترفته يداه طيلة الحقبة السابقة، مكتفياً بالاستعانة بخطاب بناء المؤسّسات. لكن من العبثيّ النفخ في محاربة الفساد إلى درجة تجعل المؤسسات بمنأى عن النظام السياسي، وخاضعة لسلطة ضابط، مهما بلغت كفاءته أو وطنيّته، ومهما بلغ تسامح المصلحين مع بطشه.
فالفارق بين علاقة السياسي بالنظام الطائفي والمحاصصة وبين علاقة العسكريّ بهذا النظام، ينبغي ألا يقود إلى الحديث عن أفضلية أو تفوّق أخلاقيّ للضابط على السياسي لأن الأوّل غير مرتبط عضوياً بالنظام الطائفي. فالطائفية، حين تُنتقَد، ينبغي أن يصبّ نقدها في مصلحة تجاوزها إلى ما هو متقدّم عليها، لا إلى ما هو أكثر تقييداً لحرية الفرد منها. فالثابت يبقى هو الدفع نحو نظام أكثر ديموقراطيّةً. فإذا كانت الطائفية عبر إقحامها الجماعة وحقوقها تحدّ من حريّة الأفراد، ولا تجعل من علاقة الفرد بالمؤسسات الأساس في عمل النظام، فإنّ محاربة الطائفية بيد عسكرية لا تترك للأفراد أي حرية أصلاً، أو على الأقلّ، تجعل من حرية الفرد شأناً ثانوياً نسبةً إلى أولويّات أخرى تحدّدها اليد العسكريّة نفسها.
وما ينطبق على الطائفية ينطبق على الفساد أيضاً، علماً بأنّ الفساد نفسه قد يكون أداةً غير منظورة لتوزيع أكثر عدالةً للثروة، وخصوصاً حين تكون السياسات الاقتصادية المعتمدة من قبل الدولة شديدة التحيّز طبقيّاً.
اللبنانيّون مصابون بمرض الشهابيّة، بالحلم بذاك الضابط الذي سيقوم بالإصلاح رغماً عن الطاقم السياسي. وغالباً ما يتناسى اللبنانيون كيف اعترف شهاب نفسه بوصول طريق كهذه إلى حائط مسدود.
ذات يوم، نصح وليد جنبلاط إميل لحّود بألا يبدأ من حيث انتهى فؤاد شهاب. كم كان جنبلاط على حقّ.


 
posted by Thinking | Permalink | 0 comments